بقلم : ناصر الظاهري
لا أدري من هو أول من قال تلك العبارة، لكن له الأجر والإحسان كلما عنّت على بالنا وقلناها، فالإنسان يفرح ما دام في ذاكرته أشياء تستحق أن تسترجع، وتعاد، وتحكى، وتنزل الشجن ودمعة العين أو تشرق بالضحكة وفرحة الخاطر، الإنسان دوماً سعيد بذكرياته التي ترحل معه عبر أنماط الحياة، وسنوات العمر، قد يراكمها، يمحو بعضها، قد يخبئ شيئاً منها لشيخوخته أو يبقي منها زاداً لحكايات تجلب النوم والأحلام لأحفاده، فقير هو ذلك الإنسان الذي بلا ذكريات، فحتى النفس تحتاج إلى من يحادثها في الخلوة والوحدة، وتحتاج إلى أن تسمع صدى الداخل والذات، ولا يشعر الإنسان بالغبن إلا إذا محيت ذاكرته وذكرياته، ساعتها يشعر بالفراغ والعدم والجفاف المميت، وقد يشرع نحو الفناء.
لا أتصور شخصاً لا يملك قصصاً في حياته، وقصصاً لحياته، يستمتع بالأولى، ويسترشد بالثانية، فلطالما كانت تلك التي نخبئها في الرأس، وتسكن ضلوع الصدر مصدراً للتفاؤل، ومبعثاً على الإلهام، ونشيداً نحو الحياة الجميلة، ولعل جيلنا الستيني أكثر الأجيال حظوة بذكريات قد تكون بسيطة، ولكنها متنوعة، ومفعمة بالحياة، وهو ما زال ممسكاً بخيوطها، ومتمسكاً بتفاصيلها، ولكنه في الوقت نفسه أقل الأجيال حظاً في تلمس طرق ذكرياته وأماكنها وروائحها في الوقت الحاضر، لقد انهزمت مواطن ذكرياته أمام الاندفاع نحو العمران والهد، تبخرت فجأة أمام عاصف
التغيير والتجديد. قليلون من يجدون مدرستهم الابتدائية القديمة في مكانها، قليلون من يعرفون منازلهم التي ولدوا فيها بمشقة ذلك الزمن، منهم من سقط تحت ظل نخلة أو في «الدرس»، وسط خوار بقرتهم، وثغاء دبشهم، ومنهم من نزل مبتسماً في «القطيعه أو الزويه»، اليوم الكثير من جيل الستينيات يتمنى لو يجد تلك السدرة التي كان يلقط من تحتها «النبج» الحلو أو «الزخمي»،
نريد أن نخبر أولادنا بما يفرحنا، حتى الأسواق التي لها رائحة الناس الأولين، لم تعد، ألبسوها ثوباً جديداً، وحموها بالزجاج، وبدت أبوابها غير مشرعة، وتفتح بخجل، وظهرت لافتات بلغة إنجليزية ترقص بأنوارها المتصابية، كانت السوق تعرف بدكان فلان، و«حفيز» فلان، وهناك ثلاجة «البارد والشربت»، غابت «الجبره» العتيقة، وغابت ساعة الميدان، وغابت دار السينما
القديمة، وغابت أشياء وأشياء، لم يبق منها إلا ظلال في الذاكرة، وصور باهتة معظمها بالأبيض والأسود، تهز ضلوعنا ونحن نقلّبها بين الأصابع شبه المرتجفة، لا نقاوم الجديد والحديث والأسمنت والرخام، لأنه ربما يكون من ذاكرة أولادنا، وزادهم في زمن «الديجتل»، ولكن لا تجعلوا ذكريات سنواتنا المتبقية من زجاج.. فقد كانت لنا قلوب تعرف رائحة الطين!