بقلم : ناصر الظاهري
هناك أناس يتقنعون بأقنعة التقوى والفضيلة ليتاجروا بالدين، ويتكسبوا بتلك الصفة الواقية والمانعة، بحيث يصعب على الناس أن يرموا هؤلاء المتاجرين بأي لوم أو يشكّوا في تصرفاتهم، ومعاملاتهم، وكثيراً ما صادفنا في الحياة منهم وأمثالهم، وسبل تعاملهم مع الأمور، ولأن الدين قائم في الأساس على المعاملة مع الآخرين، وصيانة الحقوق، وتقديم الواجبات، أما الشعائر فتلك بينهم وبين ربهم، ومن أمثلتهم وجهان بقناع واحد، آثرت أن أكشفه لكم، لكيلا نأخذ بلين كلامهم المعسول، واستغفاراتهم الكثيرة، ومظاهر التقوى المجاهرة، والتجارة الخاسرة:
- رجل والله لا يمكن أن تشك في صدقه وأمانته، وجهه دائماً يختضل بماء الوضوء، ويسابقنا للمسجد للدوام على صلاة الجماعة، ويظل يتسنن بعدنا ويطيل، ونحن ننتظره في الخارج، كان مرافقاً دائماً لإحدى بعثات الحج والعمرة، صحيح أنه لا يدفع فلساً لقاء ذلك، لكنه يقدم خدمات مثل الصلاة بالناس أحياناً، وكان يجيد الدعاء، ويساعد كبار السن في قضاء حوائجهم ومشترياتهم،
ودخل في الناس بتلك الحُسنى، حتى وثقوا به، لكن صاحب الزبيبة التي تكبر من يوم ليوم، غافل الجميع، وسرق شيكات، وزوّر تواقيع، وسحب من حسابات الذين يعرفهم ويثقون به، وينجز لهم معاملاتهم البسيطة، لقد كان يشبه المحامي، ويشبه المحاسب، ويشبه مقاول الحج، ويشبه حتى العتال إنْ لزم الأمر، لكنه لم يكن يشبه الرجل الصالح، ولا يعرف من الدين «حد السرقة» و«خيانة الأمانة»، الغريب أنه بعد تلك السرقات المعقدة، والتزوير المتقن، و«لطم» فلوس الناس، ذهب للعمرة، وجارٍ البحث عنه في تلك الديار المقدسة!
- مقاول لحملات الحج والعمرة، حينما تدخل مكتبه، تجد سجادات الصلاة منثورة في كل مكان، وروائح اللبان والبخور المسترخص يفوح في المكتب، وشريط دائر بالقرآن الكريم لا يتوقف بقراءات مختلفة لقراء الحرم المكي والمدني، وهناك لوحات للوعظ والإرشاد، وبعض قصائد الشافعي ملصقة على الجدران، لكن لا صورة للحافلة التي سيسيّرها للحج، ولا شيء مكتوب لما سيقدم للمعتمرين الذين يأخذ فلوسهم مقدماً، ولا شيء عن الخدمات على ذلك الكمبيوتر المجمع بسذاجة تنم عن عدم الفهم، والذي لم يحَدّث لعدم القناعة بجدواه، عن الفنادق التي سيسكّن فيها الناس على اعتبار أنها من فئة الخمس والأربع نجوم، ولكن حين تسير القافلة، يفاجأ المعتمرون بأنها «باصات» من «تفنيش البلدية» لا مكيف ولا ثلاجة ولا وسائل ترفيه، وتتعتع طوال الطريق، فيتحجج ممثل المقاول بأن المقصد بيت الله، وتلك من نعيم الدنيا وملذاتها، يتعطل «باص» ويبرك في مكانه، فيوزع ركابه على «الباصين» الآخرين، على مبدأ وسّع لأخيك المؤمن، يوسع الله لك، يصلون الديار المقدسة، ولا يجدون من نجوم تلك الفنادق إلا نجوم الظهر، فيلقي المقاول اللوم على الآخرين لأنهم خدعوه، فيطلب من المعتمرين الصبر، واحتساب الأجر، وعمرتهم إن شاء الله مقبولة، ومضاعفة!
ليس مثل خيبة الأمل تكون ثقيلة على النفس، وأصعب تلك الخيبات التي تأتي من رجال يتطهرون، ويدّعون قرباً من الله أكثر منك أنت الإنسان البسيط، النظيف!