بقلم : ناصر الظاهري
ثمة حب مختلف، حب لا متناه تجاه أشياء عظيمة وكبيرة في الحياة، كأن يعشق إنسان النُبل، ويتودد إليه، ولا يقدر أن يقصيه لاتساع معانيه، وتعدد نهجه، كأن يعشق الإنسان الشرف، ويجاهد ليرتقي لغاياته، ويبلغ مساراته، فلا يقدر أن يصل لسمو مكانته، فلا ينطفئ الحب، ولا يمل الإنسان النبيل والشريف السعي.
ثمة حب مقدس تنزّل من نور، ومبعثه النور، نور السموات وضياء الحياة، هو ذاك الحب الذي يكنه الإنسان لأمه، فلا يدري كيف يحب، ولا كيف يعتذر، وتظل هي لا تتعب منه، ففي غالب الأمر، هي من يفجر هذا الحب في الحياة، لأن حبها ثقيل، ولا يبلغه قاص ولا مريد، هو شيء من الإيثار والحنان والمسؤولية والتضحية، وعدم الشكوى، ولا يمكن أن تتبادل الأدوار، فلا الابن قادر على أن يفي بغير قليل من الحب، مهما كبر، وبرّ، ولا يتساوى مع حب الأب، مهما علا، وكان تاج القدوة، ونبراس الحذو. ثمة حب يختص به المكان، حب تترجمه أعضاء الجسد سراعاً، فلا يمكن أن تدخل مدينتك أو وطنك، إلا ويتسارع النبض، ويرقص القلب كحمامة بيضاء، ثم تهدأ الأشياء في النفس، وتراك تغيرت، وأصبح حالك كمن ابتل بالمطر أو تنفس عطر الفجر أو سجد حامداً حزّة هجع الناس، وجُنّ الليل، مع دمعة شكر.
ثمة حب يمكن أن تفرقه على الناس الطيبين، تحاول بما تقدر، وما لا تقدر، أن توزعه على الشريف والصادق والأمين والصابر والمتعفف، هم كثر، ومواطن خيرهم وفعلهم كثيرة، فلا هم ينتهون من الدنيا، ولا حامل مثل هذا الحب يمل أو يكل. ثمة حب تريد أن تعطيه للأخ، فيفوز به الصديق، ذلك الذي يشبه الأخ الذي لم تلده أمك، ميزة هذا الحب أنه يخفف الثقل ويلغي الهم، يقيل عثرة القدم، ويعضد يمناك، وحين تريده أن يجعل من فرحك صهيلاً، تجده هناك. ثمة حب لا شفاء منه، هو خير في مبتدئه، وربما شر في منتهاه، إن تمكن، وتسيد، ولَم يغالب الأهواء، ولا حب التملك والاشتهاء، هذا الحب هو حب النفس، يمكن أن يجعل من النفس سلطانة متوجة، مترفعة، متعففة، وإن طغى هذا الحب عليها أفسد ما فيها من منبت، وأحرق جذورها، وأحرقها. ثمة حب مطلق، هائم، فضاؤه المعرفة، ونبش الأسئلة، مرة يتعلق في نور السموات، ومرة في الحياة، وزهو ألوانها، ومرة يريد أن يتبع الصمت، كدرويش سابح في ظلاله، بعيداً عن ضلاله، ومرات نجده في الخلاص، ومرات يغافلنا، ويكون لابِدّاً لنا في المنعطفات، لا يدعنا نمر سراعاً، ولا جزافاً قبل أن يطمئن على الخير فينا، ومرات كثيرة، نريد أن نقبض عليه فيفرّ من خلل الأصابع، كماء منثور، هذا الحب هو المبتغى، وهو المتلمس في رحلة الإنسان المليئة بالحب، تلك الكلمة الجامعة، المانعة، والتي لا تقبل الجمع، لكنها توزع من أشيائها علينا، لتعيننا على المسير في هذا العمر القصير.