بقلم - ناصر الظاهري
من المدن التي لا تمنحك متعة المكوث فيها أكثر من ثلاثة أيام محسوبة، وكأنك ذاهب إلى بيت عمك الذي يحبك فقط من أجل عيني أخيه المرحوم، مدينة هونج كونج، التي أعدّها شركة كبرى تنغل برجال الأعمال والمغامرين والمقامرين والنصابين وصائدي الفرص، لقد زرتها في منتصف الثمانينيات حينما كانت جزءاً من التاج الملكي البريطاني، كآخر المستعمرات في تلك البحار البعيدة، حيث لا تغيب الشمس، وزرتها حينما عادت إلى حضن الصين بتململ وكسل ورهبة أن تصبغ باللون الأحمر، وتكتف أياديها عن اللعب بالعملات المختلفة من دون رقيب له صفة الرفيق الذي يزعجها بالتأكيد بشكّه الدائم، ورهبته تجاه مسؤولية الحزب، والخوف من أي زائر باعتباره أجنبياً قابلاً للتخابر، فقد تعودت على «الجنتلمان» الإنجليزي ومتطلباته الكثيرة والمزعجة، لكنها كانت حرة في ما تفعل خارج المنزل العائلي، هكذا كان الانطباع عن هونج كونج، وما زال، والذي يعني اسمها «الميناء العَطِر»، وهذا أول كذبها على الناس، وغشها الذي لا ينتهي بتزوير كل شيء، وصقله، وكأنه أصلي، فقد أتعبت الشركات الكبرى، والمصممين الأوروبيين في التقليد، وتزوير الدمغات الأصلية، فموانئها تفوح منها روائح الأسماك، وما يلتقطه الصيادون الصينيون من أعشاب البحر وطحالبه وكل ما فيه، فالصيني يأكل كل شيء، ولا يترك شيئاً يسبح بحمد الله، ربما كانت التسمية العطرة في سابق عهد هونج كونج نسبة لالتقاء البحر المالح بالماء العذب من دلتا نهر اللؤلؤة، وربما لأن ميناءها القديم كانت تخزن في مستودعاته العطور التي تصدر لمختلف البلدان، أما اليوم فالتسمية ظالمة، لأن ما يرميه بحر الصين الجنوبي الملوث، ودلتا نهر اللؤلؤة العطن، كافياً لأن يمنع النسيم العليل من صنع بهجة للناس، وتزيده كثافة الضباب والرطوبة، ثم الكثافة السكانية العالية حيث تعد هونج كونج من أكثر المدن اكتظاظاً بالسكان ذوي الغالبية الصينية بنسبة تصل أربعة وتسعين في المائة، فعدد سكانها سبعة ملايين نسمة في مساحة 1104 كم مربعة فقط.
هونج كونج التي كانت جزيرة صغيرة سقطت في أحضان الجندي البريطاني بعد حرب الأفيون الأولى «1839 - 1842 م»، ثم تمددت على يديه لتضم مناطق أخرى مثل شبه جزيرة «كولون»، استولت عليها اليابان إبان الحرب العالمية الثانية، وحرب المحيط الهادئ، ثم استعادتها بريطانيا مرة أخرى حتى خرجت منها عام 1997م، مع توصية أن تبقى ذات استقلالية في حكمها الذاتي، واستقلالية القضاء، ووفق مبدأ «بلد واحد، ونظامان مختلفان».
زرت هونج كونج ثلاث مرات، كانت الزيارة الأولى والأخيرة لها وحيداً، في الأولى تسبقني الدهشة، وفي الأخيرة «تطييب خاطر»، أما الزيارة التي بينهما، فكانت مع أصدقاء، سأحكي قصتهم غداً حينما نكمل..
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
نقلا عن صحيفة الأتحاد