بقلم : ناصر الظاهري
هي صغيرة، لكنها تسافر بك ومعك في كل العالم والعوالم، نلجأ إليها دائماً كأم حين الضيق والوحدة والغضب والفرح، كنت رفقة الصديق الإيطالي «فرانشيسكو ليجّو» أو
«جوهر الصقلي» كما يسمي نفسه، فهو من صقلية، وهو بحر في العربية، وفي لهجات شمال أفريقيا، ولا يمكن أن تميز نطقه عن أي شاب تونسي أو جزائري، كنا نتحدث لساعات بالعربية في شتى أنواع المعرفة، وحين أراد أن يصرّف فلوسه لدراهم، واستلمها من المحاسب، عدّها بلغته الإيطالية الأم، فتنبهت أذني له، وتساءلت في داخلي، لماذا حين تضيق بنا الأمور نلجأ إلى لغتنا الأم؟ ولماذا حين نصل إلى أشياء جدّية نتعامل معها بلغتنا الأصلية؟ تماماً كلما ضاقت بنا الحياة لجأنا إلى صدر الأم، وحضنها، ودفء يديها!
ثم كبر السؤال، نحن جميعنا في الآخر نلجأ إلى لغتنا الأم التي تستوعب كل ضجيجنا وسخطنا وغضبنا وفرحنا، حين توترك شوارع نيويورك، وتضيع بين جسورها، وتغيّب وجهتك، تتذكر أنك عربي فتلعن بلغتك، يضايقك شخص ما، ويستفزك، فتطلق سبابك أولاً بلغتك الأصلية، تريد أن تصل باريس، فتأخذ طريقها الدائري الـ«بريفيريك» لكنك تدخل في «عنق الزجاجة»، فتظهر احتجاجات بلغتك الأم لا الفرنسية التي تعرفها، يطربك خبر مفرح، فتكاد تبكي نشوة بلغتك الأم، كلمات الشكر الحقيقي لا تخرج إلا معطرة بلغتك الأم، بمعنى آخر أنه في أشد الضيق، وأقصى الفرح لا تحضر إلا اللغة الأم لتقول: أنا رأسك العامر، وبحر صدرك الطامي!
مثلما لا يمكن للإنسان أن يصدر عنه دعاء أو خشوع أو تبتل أو صلاة بغير تلك اللغة التي حفرت منذ الصغر في صدره، لا يمكن للدارسين والمتعاملين يومياً مع اللغة الإنجليزية من غير أهلها، وحين يلجأون إلى التضرع إلى الله خوفاً وخشية وطلب رجاء أن يجعلوا الإنجليزية هي الوسيط، دائماً هناك لغة أقرب لفم الأم التي هدهدت طفلها في قماطه بترنيمتها الأولى، وزجرته طفلاً عن اللعب بحروفها الغاضبة، وكبّرته على السباحة في بحرها الذي يغشى تفاصيل الحياة.
وقد سجل لنا التاريخ تفاصيل موت كثير من العظماء والزعماء وكبار المبدعين، وحين جاءت لحظات النهاية، وتسليم الروح كانت الكلمات الخارجة مع الزفرات الأخيرة دوماً موجزة ومركزة وجامعة وبلغة الأم، وهي أشبه ما تكون بالوصايا، ومثلما تلقى حروف النور في المهد، يودّع بها الأهل ذهاباً إلى اللحد!
ذاك سر من أسرار تمسك الإنسان بلغته الأم، لأنها هويته الحقيقية في الحياة، فهو يعيش في اللغة، ويتنفس باللغة، ويفكر باللغة، ويفك ألغاز الحياة باللغة، ويسبر المستقبل باللغة، ويمكن أن يكون مغترباً إنْ سافر عن اللغة، ويمكن أن يشعر بالوحدة القاتلة، والبرودة المميتة إنْ لم تحضر يومها تلك اللغة التي نحتاجها كأم!
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
نقلا عن الاتحاد