بقلم : ناصر الظاهري
وحدها الأم من يتمنى الإنسان، وليته يحصل له، أن لا يمشي في جنازتها، ولا هي تظلم عيناها بخبر رحيله قبلها، تلك هي معادلة الأم الصعبة في هذه الحياة، فلا تود العين أن تبكيها، ولا تسخى أنت بدمعتها، لأنها عزيزة، ودمعتها غالية، لأنها لن تنسى، ولا تقدر، ولا تريد أن تكف عن حب الظنا، فكيف إن كانت امرأة لها كل «الغلا»، ولها من اسمها نصيب الدرّ الفريد، ولها ذاك التفرد بشخصيتها الاستثنائية مثل «حصة بنت محمد»، أم رئيس الدولة، وأم للجميع، وأم لأهل العين، ترا.. ما أكثر الباكين، وما أكثر الذين سيتذكرون، وما أكثر الذين سيحنّون كلما غابت عنهم عادة من عاداتها الكثيرة، وكم سيدارون دمعة ينزلها المعروف وحده، وما أكثر خيرها ومعروفها، وكم ستطرأ على البال كلما مر شخص بجانب ذاك البيت الذي كان عامراً بها، وبحسها، هنا تبدو معادلة الأم أصعب وأقسى، غير أن للأمور سننها، وللزمن ناموسه، والأقدار تعادلنا كظلنا، لا نقدر أن نسبقها، ولا هي تقدر على التأخير، هكذا..
فجعنا برحيل آخر الناس الأولين، امرأة من وقت وتعب، وخير وحب، امرأة لا تقدر أن تمر بجانب دارها، وزرعها وظل مائها ونخيلها، ولا تشير إلى الخير الذي فيه، لا تستطيع أن تمر ولا يتبعك عطر بخورها وزينها ومعروفها، وإن قال الناس، قالوا: «هذا بيت حصة، وهذا جاءنا من بيت حصة، وهناك.. حذا بيت حصة»، هكذا هي هيبة الأم، حين تفرض حضورها، وحين لا تجعل أشياء من الأمور قاصرة أو ناقصة، وإن قال الناس، قالوا: «ما يجينا الناقص من حصة الكاملة»! بعض الناس يطبعون المكان بمسك عطرهم، ويهبون للمكان نوراً من حضورهم، لا تشعر بذلك إلا إذا ما غابت حصة عن «العين»، وبقيت ترابيها العين الأخرى حتى تهل ويستبشر الناس، ولا تكف عن زيارتها، ولا تتعب هي، ودوماً ما «تتشره»، وتسأل، وتتخبر، وتحاتي، لا تكف هي أبداً عن فيض الحب، ولا تكف عن «مواصيلها».
عاشت تذكر، وتتذكر كل الناس، وغابت، وسيبقى من بقي يذكر ويتذكر حصة، ويتذكر أيامها، وأفضالها التي كانت تصل البعيد والقريب، ويتذكر كيف تكون العين زاهية إذا ما كان ظلها في المكان، ويتذكر تباشيرها قبل ما يبشر الصيف، آه.. كم كان جميلاً حين يبشر الصيف في العين، ويفرح قلوباً كانت تنتظره لأن مسلكها الخير، وطينتها البر والإحسان، وتفرح إذا ما فرح الناس.
بعض الناس حين يغادرون يرجّون المكان بهدوئهم الذي كان، وكانوا يتصفون به، ويكادون يشعرونك أن ثمة فراغاً سيحدث، وأن ثمة غيمة من خير وود ومحبة وبشارة ستغادرنا.. وإلى الأبد.
نقلا عن الاتحاد