بقلم : ناصر الظاهري
تعلمت من كثرة الأسفار أن لا أأسف على أي تأخير أو تعطيل، وأن لا استهلك الصحة في الكبت والغضب، حتى ولو كلفتني مالاً وجهداً، وربكة في برنامج الرحلة، حيث لا تدري كيف تحدث هي الأمور، كأن تكون قد عزمت على شيء، وذهبت بصلابة الموظف الملتزم، سعياً وراء الوقت المحدد، فتفاجأ أن كل شيء اختلط، وارتبكت المخططات، وجاء وقت الارتجال الجميل، هذا ما تعرضت له خلال بعض أسفاري، فأرجع إما إلى البيت أو الفندق أو أبيت في المطار، مشكلتنا النساء، تلقى الواحدة صلّت ركعتين سُنة قبل السفر، وتحمل في شنطتها كتيب دعاء السفر، وتترك هاتفها على القرآن بصوت مسموع خلال التوجه إلى المطار، وحين يحدث التأجيل والتعطيل، تنسى كل ذلك، وتظل تتأفف وتحنق، وتصلّ غضبها عليك، ولا تعترف بتلك اللحظة الإيمانية التي انتابتك فجأة، بقول: «الخيّرة فيما اختاره الله» !ذلك التعطيل صادفته مرة في مطار كوالالمبور حينما غطت السحابة الرمادية أجواء السفر، ورهنت المسافرين وفق ما تشتهي حركتها وانقشاعها، فلبثنا في ذلك المطار الذي ضاق يومها بالناس العالقين، وكنت من الناجين الذين آثروا السلامة والمكوث في فنادق المدينة حتى تظهر شمس ماليزيا علينا، طاردة تلك السحابة الرمادية التي تشبه الحزن في أوله.
ومرة.. حدثت لي في مطار امستردام حيث باغتتنا كتلة ضبابية باتساع سماء المدينة، وبكثافة الملل، بعد المغيب، فأعلنت الطوارئ في ذلك المطار الكبير، وألغيت الرحلات، فانقلب حال الناس، والكل يصيح: العمل، المصالح، الأضرار، الخسائر، المواعيد، الظروف المختلفة، وصعوبة التأخير، خاصة بعدما كنّا على كراسي بوابات المغادرة، وبعد أن استودعنا كل أماناتنا في حقائبنا التي عادة ما تسبقنا بخطوات، فجأة تحول المطار إلى منطقة صناعية، وإذا بالترتيب وخطوات المضيفات المحسوبة على رخام أرضية المطار تتحول لخطى متعثرة، مرتبكة، وكثرة الاعتذارات التي لا تفيد أحداً، لقد ضاقت الفنادق التي حول المطار، والتي لا يسكنها عادة إلا المضطرون والمغادرون على عجل، والتي تظل خدماتها في تدنٍ باستمرار دون أن يحس بها أحد، لكنها في تلك الليلة كانت مطلب العالقين، لكنها غَلَت وتغلّت، فاضطرت سلطات المطار أن تفتح قاعاتها العليا لتكون سريراً واحداً وكبيراً لبشر من جهات العالم الأربع، وفي مثل حالات النفير تكثر فوضى الإنسان، ويتحول لأنانيته المتوحشة، ويكون أقرب لحال الغاب حيث عاش الجد الأول، تتنازعه الشرور، وحب التملك، والفردانية المزعجة، ويغيب الجمع والجماعة ومعنى روح الإيثار، ليلتها هجع العالم في مكان واحد، لكن بالتأكيد كانت أحلامهم مختلفة!