ناصر الظاهري
هناك أناس عاديون تشعر أنهم يسيرون في ظل الحياة أو على هامشها من دون أن يثيروا ضجيجاً، لكنهم ما انفكوا يعلمونك كل يوم شيئاً جديداً، بسيطون في مهنهم، ولكنهم يزيدونك من حكم الحياة التي اكتسبوها من هنا وهناك ما يجعلك تتوقف عندهم.
«سردار جي» ليس اسمه، ولكن لقب يفضله «السيخ»، فيه من الاحترام والتبجيل لهم، هكذا تعودت أن أسميه كلما التقيته عند باب الفندق أو بهوه، فهو عادة ما يتلزم بسيارات الزوار، ويركنها، حيث يتعامل مع أنواع السيارات كافة، ويجيد سياقتها، وكنت أسأله كم نوعاً من السيارات قدت في حياتك؟ فيقول: لا أتذكر، لكنني يمكنني أن أجزم أنني أنا الذي لا يملك سيارة في بلده، ساق أفخم السيارات، وأكثرها رفاهية، وقد لا يصدقني أهلي، لو قلت لهم إنني أسوق سيارة «R.R» كل يوم، وهي مرتبة لم يبلغها حتى حراس «أندريا غاندي» من طائفتنا، فأرد عليه: لذلك قتلوها، فيضحك دون أن تغير الضحكة فيه شيئاً من هيبة الرجال المعممين، الملتحين.
مرات أسأله عن الناس، ووجوههم، وطبائعهم، خاصة وهو الثابت، والناس المتحركون، ولا ينقطعون، فيجيبني بكلمات، فأعجب من مقدرته على الاختزال، وتحديد الأمور، وأجزم أنه قارئ جيد، حاله حال الكثيرين الذين نلتقيهم، ولا نلتفت لهم، ونعاملهم قياساً لمهنهم، وأعمالهم البسيطة.
«سردار جي» قبل أسابيع كان يبتسم كعادة مهنته، ويدخل للناس بتلك الإنسانية الدافئة بين الابتسامة والضحكة، وقال إنه ذاهب في إجازة، لأنه تلقى رسالة من أبيه بأنه مريض، فودعته، وتمنيت الشفاء لوالده، وأبلغته سلامي وتحياتي لأهله، وطلبت منه أن يبلغ أباه شفاهة، خاصة حين عرفت أنه تجاوز الثمانين، «بأن من يصل لعمره، ولا يسأم، فهناك متسع من الحياة لعشرين سنة قادمة، ولا مجال للندم»، فضحك ثانية بقهقهة هذه المرة، فرأى دهشتي، وقال سأبلغه حتماً، لكن ليتك تدري ماذا كتب لي، ولإخواني المتفرقين في عواصم الدنيا في رسالته الأخيرة، من كلام شبه كلامك: «أبنائي.. تعرفون أنني معتل في عمري، وهذه رسالتي ربما تكون الأخيرة، ولا أتمناها كذلك، لذا لا تأتون إليّ جميعاً، فكلما حضر الأولاد كلهم عند سرير أبيهم، فإن قابض الأرواح ينتظر عند الباب ليخرجوا، من قدر أن يأتي فليأت، لكن لا تأتوا جميعاً، فحضوركم كلكم يعني أن الجنازة شبه جاهزة، أمنحنوني البقاء، فأني أرى أن هناك متسعاً بالحياة، ولا أرغب بالموت في حضوركم»!