ناصر الظاهري
لا يستقيم العالم بلا إيطاليا، وهناك مدن إيطالية تختصر العالم، تتمنى فيها لو بيتاً من قش صغيراً منزوياً يقبض على خاصرة إحدى طرقاتها الضيقة، فلورانسا، فلورنزي، مدينة الزهور، فخر إيطاليا وعاصمتها القديمة، عرّفت العالم، وعرفها العالم من خلال أبنائها الذين لا يتكررون، نقول: دافنشي، ونصمت كثيراً، نقول: مايكل أنجلو، ونصمت كثيراً، ونقول: دانتي، ونصمت كثيراً، هكذا هي بعض المدن لها حبّ لا تدري كيف تبثه في صدرك، فتبقى شغوفاً بها، لا تتساوى في محبتها مدن أخرى، ما أن تدخلها حتى تهرب منها، كتلك المدن المصفحة الحديدية ذات المباني العوالي، والزجاج النافر بحيادية تمقتها، والتي يتساوى عندها المبدع الكادح، والمغرم بها مع أي موظف مصرفي يدخل الحياة وهو يعدّ أيامها التي يتمناها دون خسارة تذكر.
مدن أشبه بشركات التأمين التي تخاف الموت، غير أن فلورنسا ليست منها، لذا هي التي عاشت قروناً قبل الميلاد وبعده، فيما ذهبت في النسيان تلك المدن المصرفية التي تغتال الإنسان، وتطمر فرحه بالحياة والجمال، لقد مررت على مئات المدن في الجهات الأربع، ولم أجد أحنّ من المدن التاريخية على الإنسان، وحدها المدن الصناعية ذات أطر الألمنيوم، هي القاسية ولا تعرف إلا رب العمل، غير أن فلورنسا ليست منها، محظوظة تلك المدن التي يجري في عنقها نهر يصبح مع الوقت وكبر الأيام، هو حارسها وهو جدها، وهو الذي يبارك نعمها وخيرها، فلورنسا من تلك المدن المحظوظة التي يعني لها الشجر الأخضر شيئاً، شيء من زيتون وعنب وتوت بري، وزهر وورد بألوان الأرض، ويعني لها أن يمنحها الناس جانباً من غرامهم، لأنها تستحقه، المنحازون نحن، الذين يفخرون أنهم لم تنجبهم مدن إسمنتية، تشعرك بخذلان جدرانها ساعة الشدائد، وتشعرك أنها تستجدي جيبك، وأنت تستطيب خبزها الساخن صباحاً أو دفئها آخر الليل، فلورنسا تقول لعشاقها: لا لست أنا.. أنا غير تلك المدن التي توحي لك أن لا أحد لك فيها، ولا تعنيها.
سلام على مدن قَبّلت وجه التاريخ المترب، وجبينه المتعرق، ولم تعف، ولم تكف عن الحب المتجدد، سلام على فلورنسا، لو نبتت فيها نخلة لاحتضنتها، ولو غاب شاعر في نحت أبجديات حبها، لظللته بجلال اسمها، ولو تراقصت ضلوع رسام معدم في زخرفة زهرها ووردها ولون شمس خدها، لحنّت عليه في ليل لا يشفع له فيه غير عشاق المدن الحقيقيين، سلام على فلورنسا.. ولا يكفي!