عوض بن حاسوم الدرمكي
كان بهو القصر الجميل في غرناطة يضج بأعداد كبيرة من أصحاب الملابس الثمينة والقلائد البرّاقة، وهم يئنّون كالثكالى لسقوط بلادهم أمام سيوف وسنابك فرديناند وإيزابيلا حاكمي قشتالة وأراغون، وكلٌ منهم يهمس للآخر في حضور الأمير أبي عبد الله الصغير أنْ »لا غالب إلا الله«، وهي جُملةٌ وإن صحّت إلا أنها قيلت في غير مكانها الصحيح لتُحيل اللوم والخطأ إلى تصاريف الأيام ودورات الأقدار لا غير، وليس إلى تقصيرهم في الحفاظ على أراضيهم والدفاع عن أعراضهم، فخرجت من خلف السُتُر سيدةٌ عن ألف رجل، هي أُمّ أبي عبد الله الصغير، لِتَقِفَ شامخةً تتهرّب منها عينا ابنها الدامعتان، لتقول له بيتاً خلّده التاريخ بسياطٍ من نار:
ابكِ مثل النساءِ مُلكاً مُضاعاً * لَمْ تُحافِظ عليهِ مثل الرجالِ
إن الإنسان لا يُعتبَر كياناً حقيقياً دون وطن، والوطن لن يقف على مسرح الأحداث إن لم يجد من يحميه ويردّ عنه كيد المغرضين ومخالب الطامعين، ولئن كان الأمس القريب ذا وتيرةٍ هيّنةٍ نوعاً ما، فإنّ الأمس البعيد لم يكن كذلك، فلم يترك زايد الخير، رحمه الله، وَعراً إلا وصَعَدَه، ولا يباباً إلا وسَلَكه، ولا قفراً موحشاً إلا ويمّم ناحيته، حتى استقام الأمر وأصلح بين القلوب المتنافرة، وأوجد كياناً كبيراً تحدّه أيادي الرجال لا الحدود الجغرافية، وتنافح عن تفاصيله قلوب أبنائه وأرواحهم لا بنادقهم فقط، فتماسك البناء واشتد عوده وأثمر وازدان ثمره وتنوّع..
ومرّت السنين وتغيرّت المعطيات من حولنا، وظهرت لنا أوجهٌ مغايرة لما كنّا نظن، بعد أن غفلت قلوبنا الطيبة عن أقنعة المكر لدى البعض، ولن يكون القادم إلا من ذات الفئة، ولا مناص لنا من أن نحافظ على تراب ديارنا بأنفسنا، فـ»اللي ياكل بيد غيره ما يشبع«!
ومن أول ما درسنا في إدارة الأزمات، أن تتجنّب الأزمة من بدايتها إنْ استطعت، فإن لم تكن لديك وسائل لتتحكم فيها، فلا بد حينها من أن تستعد جيداً لاحتوائها متى ما وقعت، فلم يسقط من سقط إلا لأنه تعامى عن المشكلة حتى تفاقمت وأطاحت به، فتجاهل المشاكل لن يحلّها، لذا كم كان قرار الخدمة المدنية مثلجاً لصدور من يحب هذا الوطن ويتمنى له الخير، فأوطانٌ دون سِنان لن تبقى، وحدودٌ دون أسودٍ تُدافع عنها لن تقف لوحدها!.
من المهم أن لا نعيش في الماضي القريب وهدوء تداعياته ونمطية أيامه الوادعة فقد رحل، ومن المهم أيضاً أنْ لا نعيش في المستقبل لأنه لم يأتِ بعد، ولا فائدة من ضرب الودع وقراءة الطوالع لغدٍ لا يعرف ما فيه إلا الله وحده، ولكن الأهم أن نعيش حاضرنا ونتفاعل مع كل متغيراته مهما كان طعمها مُرّاً، فكثيراً ما كانت مرارة الدواء هي وسيلة الشفاء، وما دامت معطيات الواقع قد تغيرت كثيراً لمن يرى جيداً ولا يُعاني من ضبابية قصور نظر أو قصور فهم، فلا بد بالتبعية أن نغيّر تعاملنا معها، فالتعامي عن المتغيرات حولنا لن يلغيها، ولكنه سيجعلنا مكشوفي الظهر أمام تأثيراتها، ولا جدال أنّ هذه الفترة هي إحدى محطات التغيير الكبرى في تاريخ بلادنا، ولا بد أن نكون على قدر التحدي وظن الوطن بنا.
تحدث الجميع عن الوطنية وتبارى الأدباء وغيرهم في التغنّي بحب الوطن وها هو المحك الأول قد أتى، فالمبادرة لا انتظار الأمر بالانضمام لحُماة الوطن، هي إحدى ترجمات ذلك الحب الحقيقية، أما الكلام فالكل قادر عليه، وكما قال مارك توين: »الضوضاء لا تثبت شيئاً، حتى الدجاجة التي وضعت بيضة تُحدِث ضوضاء كأنها وضعت نيزكاً«، لكننا على ثقة بأن أبناء زايد وخليفة هم »حزام الدار« وسندها.
عن نفسي أرى في الخدمة الوطنية أبعاداً كثيرة لبناء وإنضاج شخصية الشباب، فالعسكرية هي أم الفكر الاستراتيجي طيلة التاريخ البشري، ففيها يصقل المرء مهارات الاعتماد على الذات واحترام الوقت، وخلالها يستوعب أهمية التخطيط وضرورة التدرج في المراحل، وبها يتعلّم حتمية بناء سيناريوهات مختلفة للمناوبة بينها من أجل بلوغ الغاية، وفيها يشتد عوده ويصبح أكثر قدرةً على تحمّل صعوبات العمل الميداني، وأكثر تقبلاً في فترة لاحقة للوفاء بكل ما ينتقده القطاع الخاص من الشباب المواطن تحديداً، من أنه يحب العمل المريح ويبتعد عن الأعمال الميدانية المرهقة. وتتردد في ذاكرتي نبرة صوت زايد، رحمه الله، عندما غدر الجار بجاره ذات ليلةٍ عربيةٍ جاهليةٍ بائسة، فنادى »بو خليفة« بتلك »الشَلّة« التي لا تُنسَى:
يا شباب الوطــــــن لبّوا نِـداكم واحموا الدار ضد الطامعين
والشهـامة لكم من مستـــــواكم وكل طايش له الردع المهين
يا مناعير والعاثر فــــــــــداكم قد حمــــــوها سَلَفنا الأولين
فتسابق شباب الدار إلى معسكرات التجنيد آلافاً مؤلفة، لينام ثرى الدار قرير العين أنّ فوقه من هو جديرٌ به، فلا تثق إلا برب العالمين ولا تأتمن إلا ساعدك وزنادك للحفاظ على أرضك وعرضك، وكما قيل »لا تثق بأحد، فحتى ظلك يتخلى عنك في الأماكن المظلمة«، وما دام كل ذي نعمةٍ محسود، فتوقع أن تأتِيك السهام من حيت تأتمِن، فالشر إنما يأتِي من الحسد والغيرة، ولا يحسد الإنسان إلا من يعرفه وكان قريباً منه، وليست هذه دعوة للتشكيك في الكل، ولكن كما قال عمر، رضي الله عنه: »لستُ بالخب - أي اللئيم - ولا الخب يخدعني«، واليوم ها هم شباب الإمارات يردون على حسرة تلك الأميرة العربية، بأنهم الرجال الذين سيحافظون على هذا المُلْك الذي لن يضيع ما دامت في الصدر زفرة وفي البندقية طلقة!.