بقلم - عوض بن حاسوم الدرمكي
ليس في المحبة سَرَف، لأنه عطاء روح لِمَن لامَسَ الروح، وليس في الوفاء شَطَط، لأنّ الطِيب عندما يُغرس في الأرض الطيبة فإنه سيثمر طيباً لا محالة، وليس في العرفان بالجميل مبالغة، فالجزاء من جنس العمل والشكر من مقامات النفوس العظيمة، ومَن أتاك يداً مِعطاءة وأنت في عُسْرِ حال ليس كمن أتاك يداً آخذة وأنت في خيرِ مآل، كما قال الشاعر القديم:
لي ما لفاني والديار مخيفة
لا مرحباً به والديار أمان
أنا من ذلك الجيل الذي فتح عينيه على الدنيا والدولة ما زالت في بداياتها، كانت الصحاري تفترش أديم الأرض حيثما يمّمتَ ورحلت، وملامح المدنية ما زالت تتلمّس طريقها على وجه الـمُدن وعادات الناس، حتى أحلام أهل البلد لم تكن كبيرة لأنها ببساطة لا تعرف بما تحلم ولا كيف، ولا تستطيع وضع طموحاتٍ لقادم أيامها، لأنها لا تعلم من أين تبدأ ولا أين تقف، فهاجس الأمس الذي توارثوه عن أسلافهم لا يمكن أن يذهب بسهولة، توارثوا أنّ الأمن مُفتقَد، واليوم غير مؤكدٍ البقاء لنهايته، والغد غير موثوقٍ إطلاقاً بمجيئه، أنت ومَن حولك في صراع على لُقمةٍ ستُبقي أحدكما فقط حياً، كانت الوشائج بين الأفراد المتناثرين في وِهاد الأرض ونجادها متأزمة إنْ لم تكن مُصَرَّمة..
وحده زايد عليه شآبيب الرحمة مَن عَلّمهم وعَلّمنا أن نحلم، أن تطمئن نفوسنا في وعلى حاضر حالنا، أن ننام قريري العين موفوري الطمأنينة لأن هناك من كفانا مؤونة السهر لنا، أن نفتح شبابيك لم يُسبَق لها أنْ فُتِحَت من قبل لقادم أيامنا لنرى ألواناً جديدة ونوراً مختلفاً ونستنشق هواءً لم يمر بصدورنا وصدور أجدادنا فيما مضى، علّمنا أن نعيد اكتشاف مبادئ ديننا الطاهر، وأنْ تُتَرجِم أفعالنا ما نحفظه من نصوصه، بأنّ «المسلم من سَلِم المسلمون مِن لسانه ويده»، وبأنّ أحدنا لا يؤمِن «حتى يُحِبَ لأخيهِ ما يُحِبُ لنفسه»، علمنا أن نصافح قلوب إخوتنا قبل مصافحة كفوفهم، أن نرى أرواحهم النقية بعيداً عن أحكام مسبقة لملامح وجوههم وهيئاتهم أو ما قيل لنا عنهم.
علّمنا زايد أنّ الوطن ليس تراباً وتضاريساً وبحاراً، فالقيمة ليست للجمادات، ولكن لأصحاب الأرواح، فالوطن أنا وأنت وإخوتنا الذين يشاركوننا الوجود على هذا التراب، لا بلد دون بشر، ولا وطن دون مودةٍ وتعاضد وثقة متبادلة بين مَن به، كان يضرب لنا المثل كل يوم ويُقَدِّم نفسه كقدوة على الدوام - دون رغبةٍ في شُهرةٍ مِنه - بمن يُحب مَن حوله ومَن يسعى جاهداً لصالحهم، يسهر عندما ينامون، ويتعب حين يُريحون، ويتقدّم تَقَدُّمَ الشجاع حين يتردّد الحظ وتَضْعُف العزائم.
لم يكن يتحدث كثيراً عليه رحمة الله، لكن أعماله تحدثت نيابة عنه بأبلغ صورة وأقوى حُجة، لم يعد الناس يلتحفون عباءة السماء بالشتاء أو يتّقون لاهب القيظ بأسمال الخيام البالية أو «دعون» النخل، ذهبت «العِرْوِش» وخيام «المسقّبي» وحل بدلاً منها منازل حديثة تمتد أمامها شبكات الطرق المعبدة وتكتنفها الحدائق وتكمّل حاجة أهلها الأسواق الحديثة والمدارس والمستشفيات، كان أهل البلد يُعايشون قصةً أشبه بالأساطير، لا تُشرِق شمسٌ إلا على خير جديد، ولا تغرب إلا على حلم أكبر يعلم الجميع أنه سيتحقق، يعلمون ذلك يقيناً لأنّ من يقف لتحديات الزمن فذٌ يُدعى «زايد».
يمر ببالي وببال غيري على الدوام مقطع الفيديو الذي يُظهِره رحمه الله تعالى وقد ارتدى نظارة سوداء حتى لا تَكشف عيناه الطاهرتان ما لا يريده أن يُزعِج قلوب أبنائه المحبّين له، وبعد كلمات عذبة منه يقول بصوتٍ معتذر متقطّع من التأثّر: «سامحوني إذا قصَّرت»، يا الله! أي قلبٍ كان يحمل ذلك الإنسان، بل أيّ إنسانٍ ملائكي كان عليه رحمات الله تترى، ما فعله لم يفعله قائد لأتباعه ولا مُحب لأحبابه، كان أحن علينا من آبائنا، وأحرص علينا من أُمّهاتنا، قد يكون رحل من دنيانا منذ سنين عِدة، لكنّه ما زال حاضراً في دعواتنا، حيّاً في قلوبنا، ماثلاً في أقوالنا وأفعالنا، عندما نُفاخِر الدنيا نقول «نحن عيال زايد»، وكفى بذلك مِن فخر، وأكْرِمْ به من نِسْبة!
نحتفل بإطفاء شمعةٍ جديدة من عُمْرِ «إمارات زايد» المديدة بعون الله تعالى، نحتفل ونحن نُجدّد الولاء والحب والحرص على هذا الوطن العظيم وقيادته الغالية وشعبه الكريم، هو أمانةُ زايد التي تركها لنا، وحريٌّ بنا أن نحافظ عليها حُباً فيه ووفاءً له ويقيناً بأنّ هذا الوطن لا يجدر به إلا أن يبقى نقياً طاهراً متفرداً كما كان مؤسسه رحمه الله تعالى، تمر السنوات ونجدد لك الجملة التي قلتها ونحن أولى بها: «سامحنا إذا قصّرنا».