إلى أين يجري العالم

إلى أين يجري العالم؟

إلى أين يجري العالم؟

 صوت الإمارات -

إلى أين يجري العالم

عوض بن حاسوم الدرمكي
بقلم - عوض بن حاسوم الدرمكي

عندما انتهى المؤرخ البريطاني العظيم أرنولد توينبي من كتابه الحافل «تاريخ البشرية» والذي درس فيها قرابة ثمانٍ وعشرين حضارة إنسانية لامعة، قال جُملته التي لخّصت أكثر من أربعين عاماً كرّسها لوضع ذلك الكتاب الموسوعي النفيس وبيّنت باختصار أسباب زوال الأمم: «إنّ الحضارات لا تُغتال ولكنها تنتحر طوعاً»!

بالطبع هذا لا يتعارض مع سقوط الإمبراطورية الرومانية أمام هري القبائل القوطية، وانهيار الأندلس الإسلامية أمام الاجتياح القشتالي، وانكسار حضارة الأزتيك أمام بنادق ومدافع الإسبان ومثلها كثير، لكن كل ذلك لم يكن ليحصل لولا التآكل الذي أصاب تلك الدول من الداخل، وسلسلة الخطوات الخاطئة التي جعلت مشكلاتها تكبر حتى تصبح معضلات تستعصي على الحل، وكانت تلك الأمم تعيش اللحظة وتحلم بالمستقبل لكنها لم تكن تُخطّط له، ولم تكن أمينة مع نفسها لتعرف مواضع الخلل التي تُعانيها على استحياء، والثقة المفرطة بالنفس والتهرّب من رؤية ملامح الغد المزعجة كانت السرطان الذي انتشر وتمكّن حتى أتى العدو الخارجي فوجد كياناً عظيماً لكن قد أصابه النَخَر من الداخل فتساقط سريعاً!

 

ندع الماضي ونقرأ الحاضر، فالعالم في هذه الأيام وصل لدرجة غير مسبوقة من العلم والتقدم، لكن كل هذا لا يأتي من دون ثمن، فالتسارع أصبح بشكلٍ غير طبيعي، والتنافس بين الأمم على المشهد الكبير والمؤسسات على المشهد الأصغر يكاد يُعيد نبوءة أرنولد توينبي لنراها من زاوية أخرى، هنا تبرز ظاهرة تُعرَف بالإعياء الوقتي Temporal Exhaustion والتي يشرحها عالم الاجتماع إيليس بولدنغ بقوله: «عندما يكون الشخص ذهنياً غير قادر على التقاط أنفاسه في انشغاله بالحاضر، لا يكون لديه طاقة متبقية للاستعداد للمستقبل»، من جديد يبدو الحديث عن المستقبل «أسطوانة» يدندن حولها الجميع لكن الحاضر يستنزف كل شيء!

العالم يجري من دون توقف لالتقاط الأنفاس، فهو يريد منتجات أكثر واختراعات أكبر وتطبيقات أحدث، يركض ويركض مَن به خلف هدف متحرك لا أحد يعلم بالضبط ما هو، هناك شيء أو هناك مرحلة أو ربما محطة عندما نصل إليها سنتوقف، لكننا لا نعرف ما هو ذلك الشيء ولا ما هي تلك المرحلة ولا أين هي المحطة المنشودة، وأصبحنا نتسابق لحيازة تقنيات تساعد على حل مشكلات خلقتها الأجيال السابقة من تلك التقنيات، نكاد نملك كل شيء إلا راحة البال، تلك التي يشعر بها البدوي بين إبله وذاك الراعي الإفريقي شبه العاري في قريته وذلك الريفي الذي يزرع الحبوب على سفوح جبال الأنديز، مَن مِنّا فهم الحياة حقاً؟ هل يا ترى «طوّفنا» المحطة المنشودة أم ضيّعنا بوصلة الجهات كلها!

العالم يجري ونجري مع من يجري، نتسابق لننتج أكثر لنستهلك أكثر ثم لننتج أكثر من جديد، نحن كمن يغترف من بحر، لكن ملوحته تزيدك عطشاً وهو يتناقص لكثرة الورّاد على ضفافه، هذا الهوس بالجري للأمام من دون توقف هو ما يُطلق عليه خبراء الاستراتيجيات «تأثير الملكة الحمراء» Red Queen Effect فالجميع يخشى أن يخسر السباق، لذا فالكل يعدو من دون هوادة ومن دون رؤية واقعية لما يملكه من قدرات «متبقية» وما يحتاجه ذاك السباق، لذا لن نستغرب عندما نسمع بسقوط الكثيرين في قادم الأيام!

تحمل لنا التقارير مفاجأة مدوية مرّت على الكثيرين من دون اكتراث، ففي يوم الإثنين 29 يوليو الماضي استنزف العالم وأول مرة في التاريخ البشري الطويل «كل الموارد» التي تحتاج الأرض لـ365 يوماً لتعويضها، نعم يا سادة فالأرض كيان ناضب الموارد، والبشر أصبحوا يستنزفون من مواردها أكثر مما يمكنها تعويضه، ويُنتجون مخلفات أكثر مما يمكنها استيعابه، وحتى لا نظلم الجميع فإنّ الدول المتقدمة الغنية تستهلك عشرة أضعاف ما تستهلك الدول الفقيرة على كثرة عددها، ألم نقل لكم إن الفقراء أحباب الله!

لم تعد الأرض على سبيل المثال لا الحصر قادرة على أن تُنبِت أشجاراً بمقدار ما يُقطَع منها، ولا بحارها تنتج أسماكاً بقدر ما يؤخَذ من بحارها وأنهارها، ولم تعد قادرة على امتصاص الكربون السام الذي تُنتجه البشرية المحمومة بالتسابق في التصنيع، بالمعدل الحالي من الاستهلاك للموارد الطبيعية فإننا سنحتاج إلى 1.75 أي قرابة كرتين أرضيتين لسد احتياجاتنا الحالية من دون زيادة وهو غير المتوقع، علماً بأنّ بقية البشر وهم قرابة 7 مليارات إنسان لو استهلكوا ما يستهلكه الأمريكان وهم 331 مليون إنسان فقط فإننا سنحتاج لخمس كرات أرضية من الموارد وفق دراسة Global Footprint Network.

كما ذكرنا من قبل فلكل شيء ثمن، ولا شيء يأتي مجاناً، واللهث وراء النمو المنفلت من العقلانية ثمنه باهظ، وهناك ما يدعى مصيدة التقدم Progress Trap، فمن أجل النمو وزيادة المنتجات وتعزيز الرفاهية يتم استنزاف الموارد التي سنحتاجها وستحتاجها الأجيال القادمة مستقبلاً ولن يجدوها، وهو الأمر الذي لن يتوقف لأن الجميع في السباق، والغالبية تجري خلف ذلك الهدف المتحرك الذي لا تعرف كُنْهَهُ بالضبط، والغالبية تظن أنها عصيةٌ على السقوط وتعرف من الوسائل ما يجعل مناعتها عالية، والجميع يعرف أنّ من سيخسر السباق هم الأكثرية وأغلبهم يظنّ أنه ليس ممن سيخسر، حقاً فالأمم لا تُغتال ولكنها تنتحر طوعاً!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

إلى أين يجري العالم إلى أين يجري العالم



GMT 21:31 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

كهرباء «إيلون ماسك»؟!

GMT 22:12 2024 الثلاثاء ,22 تشرين الأول / أكتوبر

لبنان على مفترق: السلام أو الحرب البديلة

GMT 00:51 2024 الأربعاء ,16 تشرين الأول / أكتوبر

مسألة مصطلحات

GMT 19:44 2024 السبت ,12 تشرين الأول / أكتوبر

هؤلاء الشيعة شركاء العدو الصهيوني في اذلال الشيعة!!

GMT 01:39 2024 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

شعوب الساحات

GMT 10:18 2016 الخميس ,13 تشرين الأول / أكتوبر

كارينا كابور في إطلالة رشيقة مع أختها أثناء حملها

GMT 15:51 2019 الإثنين ,13 أيار / مايو

حاكم الشارقة يستقبل المهنئين بالشهر الفضيل

GMT 15:56 2018 الجمعة ,27 إبريل / نيسان

"الديكورات الكلاسيكية" تميز منزل تايلور سويفت

GMT 12:03 2019 الإثنين ,21 تشرين الأول / أكتوبر

قيس الشيخ نجيب ينجو وعائلته من الحرائق في سورية

GMT 11:35 2019 الخميس ,09 أيار / مايو

أمل كلوني تدعم زوجها بفستان بـ8.300 دولار

GMT 08:09 2019 الأربعاء ,09 كانون الثاني / يناير

محمد صلاح يُثني على النجم أبو تريكة ويعتبره نجم كل العصور

GMT 19:44 2018 الثلاثاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

"شانيل" تبتكرُ قلادة لؤلؤية بطول 60 قدمًا

GMT 16:32 2018 الجمعة ,28 أيلول / سبتمبر

كنيسة قديمة تتحول إلى منزل فاخر في جورجيا

GMT 16:59 2018 الثلاثاء ,10 تموز / يوليو

جاكوبس تروي تفاصيل "The Restory" لإصلاح الأحذية

GMT 17:32 2013 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

مقتل صاحب إذاعة موسيقية خاصة بالرصاص في طرابلس
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates