بقلم - عوض بن حاسوم الدرمكي
يروى أن رجلاً أتى إلى زين العابدين علي بن الحسين، رضي الله عنه، وهو بين جمع من الناس في إحدى حلقات العلم بالمسجد، فشتمه وأغلظ له القول ورماه بأسوأ الصفات وأشنعها، وزين العابدين ينظر للأرض ولا يرد عليه حتى تعب الرجل وخرج، عندما حل الليل ذهب زين العابدين لدار الرجل وطرق بابه، وعلى قدر خوف الرجل من مرأى علي بن الحسين أمامه وخوفه من انتقامه منه كما توقع، بقدر ما ألجمته المفاجأة وزين العابدين يقول له: «إنْ كان ما قُلتَ فيّ صحيحاً فاسألُ اللهَ تعالى أن يغفر لي، وإن لم يكن كذلك فاسألُ اللهَ أن يغفر لك» ثم غادره مُسلّماً، فما كان من الرجل إلا أن لحق به وهو يعتذر ويقول: «والله ما هو فيك ما قلتُ، وأُشهِد الله أنّك من بيت النبوة»!
أمثال هذه القصص الإنسانية الرائعة تحفل بها كتب العرب، فهم أُمّةُ خُلُق رفيع وأصحاب مروءة نبيلة وأرباب قيم عُليا، أتاها الإسلام فأكملها وعزّزها كما قال صلى الله عليه وسلم: «إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ الأخلاق»، وتعزيز القيم والأخلاق يُراد به تطهير الباطن وتنقية الروح، فالباطن النيّر لا يخرج منه إلا الخير، والباطن الخَرِب لا يُتَوَقَّع منه إلا رديء السلوك وسيئ القول، قال تعالى: «وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدا».
تعزيز القيم واعتبارها أصلاً أصيلاً من شخصية المسلم لا يعني أن يكون جادّاً على الدوام وألا يكون له مع الدعــابة مَسْلك، فالاتزان مطلوب، وسعة البال مرغوبة ما دامت بالقــــدر المعقول، فلا جـــــمود ولا ابتذال، ولا دوام جِدّية ولا ديمومة مُزاح، وما نُؤاخِذ به في ساعة الجِدّ لا يصح أن نعاتب عليه في وقت الملاطَفة، وما نسترسل به في الثانية لا نقترب منه في الحالة الأولى، ومَن لم يُفرّق بين خـــصوصية المواقـــف خَسِرَ مَن حوله
إذا كنتَ في كلِّ الأمورِ مُعاتِباً
صديقَكَ، لم تلقَ الذي لا تُعاتِبُهْ
كنتُ كغيري أُتابِع منذ فترة المهنة الجديدة للبعض ممن يريد الاسترزاق والتكسّب من خلال التصيّد في المياه العكرة، والتي لا تعدو أن تكون معرفة جيدة بقانون الجرائم الإلكترونية ومواده ثم رمي الطُعْم باستفزاز الناس في منصات التواصل الاجتماعي، والبدء في «جَمْع الصيد» من ردود الأشخاص الذين تم استفزازهم عمداً ولم يكونوا هم البادئين في المشاكَسة، ثم فتح بلاغات عليهم ومُتابعة حسابه البنكي وهو يمتلئ أكثر فأكثر مِن غرامات مَن تَمَّ استدراجهم!
ما صَدمني مؤخراً أكثر أن «بال» البعض قد أصبح ضيّقاً، لدرجة أنّ أحدهم رفع بلاغاً على أخٍ له لأنه «أزعجه» برسائل تحية الصباح كل يوم على هاتفه، وهي القضية التي كانت مثاراً تندّر الناس في المجالس، ولكن لأنّ العقاب موجع مالياً للمُشتَكى عليه ومُجزٍ للشاكي، فقد رأينا مُسارعة الكثيرين لبعث رسائل للجميع يطلبون منهم أخبارهم إن كانت رسائلهم تُزعجهم، رغم شخص يستطيع حَظْر من لا يريد أو الخروج من أي مجموعة لا يرتاح بها أو أضعف الإيمان بإمكانه قفل التنبيهات وكان الله غفوراً رحيماً!
تمر بالمكتبات الأمريكية فتجدها تعج بكتب النُكَت والطرافة، وتتحدّث عن طوائف محددة، وكذلك تمتلئ برامجهم ومسلسلاتهم بالظرافة والمزاح، ولم نسمع أن أحداً اشتكى وجعلها قضية كبيرة وتباكى فيها على الإنسانية المهدورة، هناك فرق كبير بين النكتة وبين السخرية، بين المزاح وبين الاحتقار، بين الظرف وبين الازدراء، خَلْطُنا بين الأمور ومبالغتنا في التضييق لن تجعل المجتمع أفضل، لكنها ستجعله مذعوراً من كل فعل أو قول، وشكّاكاً في كل أحد وفي كل شيء، البشر ليسوا «روبوتات» يتم برمجتها على نَسَقٍ ثابت لا تخرج عن إطاره، بل هي مخلوقات حية تتفاعل مع ما حولها، وكلما كان التفاعل إيجابياً مريحاً كلما كان المجتمع أشدّ تماسكاً وأكثر أُلفة.
المال وسيلة للحياة وليس هو الحياة نفسها، فإمّا أن تميل به ليُيسّر أمور معيشتك أو أنْ يميل بك ويُصبِح شُغلك الشاغل وفي سبيله ستنسى إنسانيتك وتدق إسفيناً أخيراً في نَعْش تكاملك وتناغمك مع مجتمعك، وستحاول خداع ضميرك بوضع التبريرات الكثيرة التي تعلم يقيناً أنها غير صحيحة، فاستفزازك للناس بمهاجمة دينهم ستضعه في إطار حريّة الرأي، ومساسك الفج بالقيم المجتمعية ستراه ضرورياً لإجبار «المتنطّعين» ليكونوا أكثر ليونة ومرونة مع قيم العالم المتحرر وكأنك أنت الإنسان المثالي الذي يُحدّد ما هو التنطّع وما هي المرونة ومَن هو المقبول وما هو المرفوض!
تستطيع أن تعيش على القليل من المال لكنّك لن تعيش منبوذاً ممن آذيتهم في سعيك لملء جيوبك، ولئن قدرت على جَعْل طمعك يُمْطِر عليك الكثير من النقود من جيوب إخوانك بعد جرجرتهم للمحاكم، فإنّك لن تستطيع أن تروي بتلك النقود الأرض اليابسة والعلاقات الميتة التي أصبحت بينك وبينهم، يقول الكاتب الأمريكي الراحل بيرتي شارلز فوربز: «ذاك الذي ربح الملايين على حساب ضميره فاشلٌ كبير»، أما سينيكا فيلسوف الرومان القديم فيذهب بعيداً وهو يقول: «الفقير ليس ذاك الذي يملك القليل، ولكنه ذاك الذي لا يشبع أبداً»!