بقلم - عوض بن حاسوم الدرمكي
يروى أن الخليفة عمر بن عبد العزيز كان خارجاً من المسجد في ليلة مظلمة مع حارسه، فتعثّر في أحد المعتكفين هناك، فصرخ به الرجل: أأعمى أنت؟، فرد عمر قائلاً: «لا»، حينها همّ الحارس بزجر الرجل لأنه لم يُوقّر الخليفة ويعرف قدره، فأمسكه عمر وهو يقول: «على رسلك، سألني إنْ كنتُ أعمى فقلتُ لا»!كثيرٌ من المواقف السيئة بالإمكان تجاوزها إنْ لم نتوقّف عند كل موقف ملتبسٍ يصادفنا أو كلمةٍ مزعجة نسمعها ونحاول تحقيق الانتصار فيها أو تسجيل نقطة على الأقل لصالحنا، فالحياة تكون موتِّرة للجميع عندما نعتبرها ساحة معارك لا بد أن يكون هناك خصم يحاول إحراجنا أو الإساءة إلينا، ودورنا أن نقف له بالمرصاد وعلى أهبة الاستعداد أو كما نقول في الإمارات:«حزا وزا»، لنرد له الصاع صاعين، وكما تذهب الجملة السائرة التي لطالما ترددت في المسلسلات البدوية: (اللي يرشّنا بالماء نرشّه بالدم)!
يقول الله تعالى ممتدحاً خيرَ مَن وطئ الثرى صلى الله عليه وسلم:«وإنّك لعلى خُلُقٍ عظيم»، فلم يمتدح قوته أولونه أو هيئته أو ماله أو سلطانه أو نسبه، ولكن امتدح أخلاقه العالية وطباعه السمحة التي عليها مناط تأليف القلوب مِن حوله، وعندما أمَرَه قال له:«خُذ العفو وأمُر بالعُرف وأعْرِض عن الجاهلين»، فليس كل خلافٍ يجب كسبه، وليست كل معركة تستحق أن نخوضها، ومَن انزلق في جدال الجاهلين وضع دون أن يدري نفسه معهم، تلك معارك حتى الانتصار بها هزيمة!
هذه التوطئة رأيتها ضرورية لقراءة مشهد بدأ يصبح معتاداً في وسائل التواصل الاجتماعي ومنصاته الشهيرة، هناك من لا يدع جملةً تمر دون أن يقفز لها ويدخل في نوايا قائلها مهما كانت بريئة ولا يتورّع عن تحوير مراميها وإدخال قضايا أخرى فيها، مع كلمات تستشنع «جريمة» هذا المغرّد لتأليب القرّاء عليه، أو على الأقل إعلان النفير العام لدى ذات «الشلّة» لتثبيت التهمة التي لا يوجد مسوّغ لها أصلاً، ولكن المبدأ هو«خذوهم بالصوت»، والفكرة هي أنني ما دمتُ أخرجتُ أنّ ذلك الشخص مسَّ شيئاً يخص الوطن فأنا المدافع الأول عنه أو تجرأ على تلك القضية فأنا بطلها الأوحد!
يضع أحدهم فيديو طريف لا يقصد منه الإساءة لأحد، لكن طبيعة هذا الشخص ظريفة ويُعرَف بين المحيطين به بخفة دمّه، لكنه يقع في ورطة مَن لا يعرفه ويظنّ أنّ في كلامه تعمّداً للإساءة، والوضع لا يحتاج سوى تعليق غاضب لشخصٍ واحد فقط لكي تتبعه جموعٌ هادرة تهاجم ذلك الشخص وتنصب له المقاصل وتغسل شراع «أبو خامسه»، ومهما حاول التبرير بعدها والاعتذار فلن يفيده شيئاً، فبعضنا بارعٌ للغاية في حرق كل الجسور مع الآخرين وعدم منحهم فرصة للعفو أو ممر للعودة!
عندما تضغط إنساناً وتتعمّد استثارته حتى يخرج من طوره، فإنّ ذلك «الخروج من الطور» ليس هو الشخص بل هو ما أردتَ أنتَ عامداً إخراجه، فلكل نتيجة مسببات، وكل تأثير كان له مؤثر يهدف لإظهاره، لذا كان الخطاب الرباني مؤكداً على أنّ من اشتكى من نتيجة سيئة فعليه أن يلوم نفسه لأنه هو سبب ايجادها فهي لم تخرج لوحدها:«أَوَلمـّا أصابتكم مصيبةٌ قد أصبتم مِثليها قلتم أنى هذا قل هو مِن عند أنفسكم»، العجيب أنّ البعض اتّخذ استفزاز الناس وسيلةً لكي يتكسّب مِن ورائها أو ذريعة لتكميم أفواه من لا يرتضون بطرحه !
وسائل التواصل الاجتماعي ومنصاته يُفترَض أن تكون جسوراً افتراضية تردم الهوّات الجغرافية الكبيرة بين البشر لتؤلف بينهم وتزيد من فرص تناغمهم معاً على اختلاف مشاربهم وألوانهم وأقطارهم، ومن باب أولى أن تزيد لُحمة المجتمع المحلي وأن تكون داعماً قوياً لنسيجه الداخلي، لا أن نتفاجأ بكونها أصبحت معاول هدم ومنصات تُعلّق عليها المشانق وتوضع فوقها المقاصل.
يفترض بنا نحن الذين نستخدم هذه المنصات أن نجعل «البال وسيع»، وأن نعي خطورة الرد الجاف أو الانفعال المبالغ فيه وتداعياته السيئة التي قد تمس السِّلْم المجتمعي، وأن نأخذ من عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه أخذ الأمور بقدرها وإنزالها في حجمها الطبيعي دون «نرفزة» لا داعي لها أو وطنية في غير موضعها، وأن(نطوِّف) الكثير مما لا يروق لنا، وأن نعفو عن الأخطاء غير المقصودة وأن نقبل عُذر من اعتذر ونترك النوايا فتلك لا ولن يعلمها إلا الله وحده، نحتاج أن نعيد تأطير تعاملنا مع وسائل التواصل الاجتماعي لتكون عوناً للتقريب بين الناس لا مفرقةً لهم، وأن تكون تواصلاً فعلياً لا مقاصل !