بقلم - عوض بن حاسوم الدرمكي
نُحِتَت ذاكرة الطفولة بصوتٍ رخيم كان يأتينا كل ليلة ونحن متسمّرون أمام شاشة التلفاز لبرنامج ثري المعلومة على قِصَره اسمه (حدث في مثل هذا اليوم) تمسّ فيه نبرة المذيع أحمد سالم رحمه الله القلوب وتفتح الأبواب لأكبر الأحلام طموحاً وأبعد الطموحات جموحاً وهو يقول: «إن أجمل الأيام يومٌ لم نَعِشْهُ بعد، وأجمل البحار بحرٌ لم ترتده أشرعتنا بعد»!
كانت أيام زايد الخير رحمه الله تعالى، تلك السنوات التي أشبهت الأعياد لفرط جمالها، كنّا نرى انبثاق الأحلام الكبيرة كل يوم، ونشهد قطف ثمار الخير والنعمة والتمدّن على الدوام، يصل بتعبه وجهده نهاره بليله وهو متهلّل الوجه بسّام المحيّا من أجل أن يختصر السنوات الطويلة التي تفصلنا عن روّاد الحضارة، لم يكن يبحث عن شهرة ولا يفتّش عن إطراء ولا ينتظر مديحاً من هذا أو شُكراً مِن ذاك، كان رجلاً بأُمّة، قائداً لا يجود بمثله الزمن إلا على فتراتٍ شديدة التباعد.
ورحل زايد وبقيت روحه بين أبنائه، لا تقبل المعتاد ولا ترضى بأن تكون تَبَعاً لأحد، تبحث بهم عن الخير حيثما كان، وتؤجج جذوة حماسهم لكلِ عظيمِ أمرٍ وشاهق مُرتقى، أورثنا رحمه الله مبدأ أنّ ما فعله غيرنا نستطيع فعله إنْ أحسنّا الاستعداد وامتلكنا القدرات، فالأحلام تبقى أحلاماً إنْ لم تنهض وتشمّر عن ساعديك لتحقيقها مهما حاول أن يكسر عزمك المثبّطون، فكل هدف كبير يحتاج جُهداً وحماساً وصبراً بنفس الدرجة، ومن أراد أن يلتفت له التاريخ فلا بد أن يقوم بعملٍ يجعل التاريخ يتوقف له إعجاباً بما فعل.
لن ينسى التاريخ اسم «زايد» أبداً، كما لن يُنسى اسم أحد أبنائه البررة، والذي أتى بعد حينٍ من الزمن ليحمل على كتفه طموح والده زايد إلى أبعد نقطةٍ قد يصلها إنسان في هذا العصر، لن ينسى التاريخ اسم هزاع المنصوري، فقد سجّله كأول رائد فضاء إماراتي يجوب الفضاء الخارجي وهي منقبة لن يكون بمقدور أحد أن ينافسه عليها أبداً وصقر الـF16 يستحقها دون شك، لن ينساه وشاشات الدنيا تنقل كلمته وهو يقول لإعلان بداية رحلته: «توكلنا على الله».
لم تُرْسِل الإمارات ابنها هزاع المنصوري بحثاً عن شهرة أو رغبة في مكسب دعائي، تلك طموحات الصغار التي لا تبتعد عن محاولة لفت انتباه الآخرين قبل أن يعودوا من حيث أتوا للصفوف الخلفية، لكنّ الإمارات تختلف، فإرث زايد أبعد ما يكون عن أن يهتم بالمظاهر أو يبحث عن التلميع، بل الهمّ وحده في كيفية أن يُزاحِم كتفُنا أكتاف الكبار.
اقتحم هزاع الفضاء لأنّ الفضاء هو ميدان التنافس في المستقبل القريب لا البعيد فقط، ولم يذهب لصورة تُلتَقَط وخبرٍ يُنشَر أو أن يكون ضيفاً لا ناقة له بالمجال ولا جمل، بل ذهب لأنه جزء من مشروع عظيم الطموح لارتياد الفضاء وضعته قيادة البلد الرشيدة وتراهن عليه، فخلال سنتين سيكون مسبار الأمل يقطع متاهات الفضاء الشاسعة باتجاه الكوكب الأحمر في أكثر خطوات العرب والمسلمين جُرأة لارتياد الفضاء طيلة التاريخ!
رحلة هزاع هي خطوة ضمن خطوات كثيرة قادمة لن تتوقف بإذن الله تعالى، تمضي وفق مراحل مشروع واعد تم تصميم برنامجه التصنيعي والتشغيلي وجدولته الزمنية بشكل مدروس بدأت بإطلاق القمر الصناعي الذي صُنِع بأيد إماراتية ولن ينتهي بمشروع إنشاء أول مستوطنة بشرية على سطح كوكب المريخ بحلول عام 2071، فالنجاح رحلة لا تنتهي وليس محطة نصل لها ثم «طاح الحطب»!
في كتابه العادات المدمرة للشركات الناجحة يؤكد جاغديش شيث أن أحد أهم أسباب سقوط المؤسسات الكبيرة هو وصولها لمرحلة الرضا عن النفس والاكتفاء بما حققت من نجاحات والاعتقاد بأن الآخرين لن يتجاوزوها، وتتناسى هذه المؤسسات في فورة صَلِفها واعتدادها بنفسها أن منافسيها لا يُضيّعون لحظة في محاولاتهم الحثيثة للتغلب عليها، فالدافع الداخلي لديهم لا تخبو جذوته حتى يخلفوا تلك المؤسسة الكبيرة على عرش التفوّق، وهو الأمر الذي تعيه الإمارات جيداً، فلا يكفي أن تكون على الطريق الصحيح بل لا بد أن تكون متحركاً فيه وإلا تركك الناس وراءهم، ولا تكفي الحركة في الاتجاه الصائب بل لا بد أن تكون سريعاً بما فيه الكفاية حتى لا يسبقك المنتصرون، فهزاع مرحلة وستتلوها مراحل كثيرة و«متصلة» بعون الله تعالى، فلا سقف للطموحات ما دامت العزائم كبيرة.
يُحدّثنا بطلنا هزاع المنصوري وهو يشد رحاله إلى تلك الفضاءات الأرحب، بكلمات تشحذ الهمم وترسم الأمل في أعين شباب العرب ثم يختم كلامه بجملة فخر «تشوش الراس» وهو يقول: «أنطلق اليوم حاملاً على عاتقي فخر وآمال هذا الوطن إلى بُعدٍ جديد. اليوم أبتعد عن وطني، عن أهلي وعن الأرض، لأقترب من النجوم».