حضارة البطون الجائعة

حضارة البطون الجائعة

حضارة البطون الجائعة

 صوت الإمارات -

حضارة البطون الجائعة

عوض بن حاسوم الدرمكي

عثر ثلاثة من الأصدقاء على حقيبة مليئة بالنقود في رحلةٍ بريّة، فاقترح أحدهم أن يتم تخصيص جزء منها لله ليتم منحها للفقراء كبادرة شكر. وأضاف أنه سيرسم دائرة على الأرض ثم سيقذف بالنقود في الهواء، فما وقع داخل الدائرة سيكون لهم وما خرج عنها فهو لله، فعارضه الثاني: ولكن الهواء قوي قليلاً، فدعنا نخصص ما سيقع داخلها لله وما خرج منها لنا، فقال الثالث: لا معنى لما تقولون، بل سنقذف بالنقود في الهواء وما يريده الله للفقراء سيأخذه وما سيسقط من جديد سيكون لنا. البشرية لا تمرض ولكنها مريضة مرضاً مستفحلاً بداء الطمع والشبق الدائم للحصول على المزيد حتى لو زاد عن الحاجة كثيراً، وكم هو مؤلم أن تكون ثروة بيل غيتس ووارين بافيت وكارلوس سليم أكبر من مجموع ثروات البلدان الثمانية والأربعين الدنيا في العالم، وأنه نتيجة لطمع أصحاب الكروش من الرأسماليين وأضرابهم يموت يومياً 24 ألف إنسان من الجوع وما معدله 11 مليون طفل سنوياً بسبب الأمراض التي يمكن شفاؤها ولكنهم لا يملكون ثمن أدويتها! في العصور السحيقة والتي تُسمّى عصور القطف والصيد، كان البعض يتعهد بتوفير الغذاء لكل أفراد القبيلة إما بصيد الحيوانات أو قطف ثمار الأشجار البريّة، ومضت تلك القبائل التي يعتبرها أصحاب الكروش "همجية" و"بدائية" في تحقيق نظام تكافل اجتماعي قلّ نظيره. ولم يترنّح ذلك النظام حتى تسرّب الطمع لبعض أصحاب القوة ممن رفض منح ما يزيد من حاجته لغيره دون مقابل وبدأت مرحلة مفصلية في تاريخ البشرية قائمة على العطاء التبادلي، والذي مع الوقت تسبب في تعاظم ثروات البعض الاستغلالي وانسحاق شريحة كبيرة من المجتمع التي كانت تقدم أعز ما لديها بمقابلٍ بخس من أجل الحصول على الغذاء أو الدواء أو الحماية! مع مرور الزمن استفحل داء الطمع أكثر وترسّخ حب تكديس الممتلكات الشخصية بما يزيد عن حاجة الفرد، وقام الـمُنظِّرون بتسويق وتسويغ هذا التصرّف وربطه بأمورٍ فاضلة لتجميل وجهه القبيح، فالجشع أصبح طموحاً واستغلال حاجة البسطاء أضحى حسن تعامل مع فرص السوق و"لَهْف ما يمكن لَهفه" أمسى عبقريةً استثمارية. وتم تحوير مفهوم الاقتصاد لينتقل من كونه نظاماً للحفاظ على الممتلكات وتنميتها بما يُعزّز فرص الحياة الكريمة للجميع ليُصبِح مضماراً يتقاتل فيه القلّة بمختلف الأساليب المشروع منها والمحظور لسلب ثروات الكل واستغلال حاجتهم في أخذ المزيد منهم بسعر أقل وبيعهم ما ينتجونه هم بسعر أكبر بكثير مما كلّفهم، وليصبح شعار الاقتصاد الأكبر أنّ البقاء للأقوى لا الأكثر نفعاً لمجتمعه! كل شيء في الكون لا يأخذ أكثر من حاجته، فالأرض لا تأخذ من ماء النهر الجاري فوقها أكثر من حاجتها، والأسد لا يقتل من الغزلان إلا ما يكفيه فقط، والرئة لا تسحب من الأكسجين إلا ما تحتاجه، والشيء الوحيد الذي لا يتوقف عند حدٍ معين ويعمل على أخذ مالا يحتاجه هو مرض السرطان والذي لا يُشابهه سوى هذا السرطان السلوكي في البشر والمتمثل في الطمع. عندما طلب البعض من سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يُغيّر كسوة الكعبة، ردّ عليهم قائلاً: "بطون المسلمين أولى"، فرغم أن الطلب خيّر إلا أنّ هناك ما هو أكثر خيريّةٍ منه وأولى، فسد حاجة الناس أولى من تجميل مبنى حتى ولو كان كسوة الكعبة نفسها. وعندما نرى عدد الجياع في العالم قارب على المليار شخص يكون في مقابلها قِلّة تُغيّر منازلها الرحبة وسياراتها الفارهة على الدوام وتتفاخر بتربية أصناف من الحيوانات الأليفة وتدليلها بل وصلت بالصفاقة لدى بعضهم أن قام بتوريث "كلبه" أجلكم الله كل أمواله كبرهانٍ جلي على انحطاط هذه الحضارة التي تدّعي الإنسانية والمدنية. من ملامح هذا الانحطاط الإنساني أن يخرج علينا تقرير منظمة الغذاء والزراعة (فاو) مشيراً إلى أنّ كمية الغذاء المبددة كل عام تمثل أكثر من أربعة أضعاف الكميات المطلوبة لإطعام 870 مليون شخص جائع في العالم، والمضحك المبكي أن ما قيمته 680 مليار دولار من الغذاء يهدر سنوياً في الدول المتقدمة ويصل الرقم إلى (الضِعف) في الدول النامية والتي أصبحت فيها قطط صناديق القمامة أكثر سُمناً من أضاحي العيد! قد لا يكون بمقدورنا أنا وأنت وحدنا حل مشكلة الفقر العالمي أو سدّ حاجة مئات الملايين من الجوعى، ولكن بالتأكيد نستطيع أن نحدث فارقاً في حياة شخص محتاج بالإحسان لعامل فقير أو مساعدة أسرة متعففة، فالسيل لم يولد دفعةً واحدة ولكنّه تجمّعٌ لقطرات ماء كثيرة متتابعة والتوجيه النبوي الكريم أن نتصدّق ولو بشق تمرة. فالعطاء على قِلّته خيرٌ من عدم العطاء، وبدلاً من تكديس الملابس واللوازم الشخصية والمنزلية بما يفيض على الحاجة ومما لن يُستعمَل حريٌ بنا أن ندفع ببعضها أو كلّها لمن هو بحاجةٍ إليها، فبذلك نتماسك كمجتمعات وبهذا نبرهن للكل أننا نهتم بأمره ونهرع لمساعدته، ولنمنح شيئاً مما نقدر عليه بدلاً من رسم دائرة ورمي أوراق النقود في الهواء، فما نقص مالٌ من صدقةٍ أبداً. نقلا عن جريدة البيان  

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

حضارة البطون الجائعة حضارة البطون الجائعة



GMT 06:14 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب الطامح إلى دور شبه ديكتاتور!

GMT 06:12 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

صوت الذهب... وعقود الأدب

GMT 06:11 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

أولويات ترمب الخارجية تتقدّمها القضية الفلسطينية!

GMT 06:11 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 06:09 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

عن تكريم الأستاذ الغُنيم خواطر أخرى

GMT 06:09 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

الجائزة الكبرى المأمولة

GMT 06:08 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

تنظيم «الإخوان» ومعادلة «الحرية أو الطوفان»

GMT 06:07 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

أنا «ماشي» أنا!.. كيف تسلل إلى المهرجان العريق؟

GMT 00:00 1970 الخميس ,01 كانون الثاني / يناير

 صوت الإمارات -

GMT 00:00 1970 الخميس ,01 كانون الثاني / يناير

 صوت الإمارات -

GMT 00:00 1970 الخميس ,01 كانون الثاني / يناير

 صوت الإمارات -

GMT 00:00 1970 الخميس ,01 كانون الثاني / يناير

 صوت الإمارات -

GMT 00:00 1970 الخميس ,01 كانون الثاني / يناير

 صوت الإمارات -

GMT 10:18 2016 الخميس ,13 تشرين الأول / أكتوبر

كارينا كابور في إطلالة رشيقة مع أختها أثناء حملها

GMT 15:51 2019 الإثنين ,13 أيار / مايو

حاكم الشارقة يستقبل المهنئين بالشهر الفضيل

GMT 15:56 2018 الجمعة ,27 إبريل / نيسان

"الديكورات الكلاسيكية" تميز منزل تايلور سويفت

GMT 12:03 2019 الإثنين ,21 تشرين الأول / أكتوبر

قيس الشيخ نجيب ينجو وعائلته من الحرائق في سورية

GMT 11:35 2019 الخميس ,09 أيار / مايو

أمل كلوني تدعم زوجها بفستان بـ8.300 دولار
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates