عالم الحدود المنزوعة

عالم الحدود المنزوعة!

عالم الحدود المنزوعة!

 صوت الإمارات -

عالم الحدود المنزوعة

عوض بن حاسوم الدرمكي
بقلم - عوض بن حاسوم الدرمكي

تعلمنا من الزمن أنّ الأمر الذي يبدو أجمل مما نتمنى هو مريب أكثر مما نتوقع، فحُمرة الحِمَم الملتهبة لا تعني أنها تشبه الورد، وملمس الأفعى الناعم لا يعني أنها مصدر طمأنينة، وكم كان مورغان فريمان موفقاً وهو يرى الوجوه الكالحة خلف الأقنعة البراقة ليختصر ذلك بقوله محذراً: «أكثر الناس حرصاً على عدم إثارة الفزع في قلوب العصافير هو الصيّاد»!

الصيادون كُثُر حالياً، وصيدهم وفير لكنهم لا يكتفون، والشباك المنصوبة أصبحت أكثر إغراءً وأشد إقناعاً للعصافير بأنها ليست فخاً وإنما ملجأ آمن تستحقه، والصيادون في عصرنا هم أباطرة الإعلام «الحديث» والعصافير هم بقية البشر، فقد بلغ عدد مستخدمي شبكات الإعلام الجديد ومرتادي جوجل وياهو وفيسبوك وتويتر وأمازون وأمثالها 2.65 مليار إنسان العام الماضي وخلال سنتين سيتجاوزون المليارات الثلاثة!

الشِباك لا تعدو أن تكون تطبيقات ومنصات تقنية جعلت البشر لا يعرفون كيف يبدأون صباحاتهم قبل النظر فيها ليعرفوا ما فاتهم خلال ساعات نومهم، ولا يأوون إلى أسِرَّتِهِم حتى يتجولوا فيها وكأن النوم لا يجوز دونها، منها يستقون معلوماتهم وبها يضعون ثقتهم للوقوف على ما وراء الأحداث وما خلف الأخبار وما يجوز ومالا يجوز، ومن هو ثقة مؤتمن ومن هو غير جدير بذلك، سقط التاريخ الإنساني بأكمله عند الكثيرين فلم يعودوا يرون من قدوات سوى نجوم السوشيال ميديا، إن مدحوا وجبة طعام هرعوا لشرائها وتصويرها إثباتاً للولاء والاقتفاء، وإن أوصوا بعلاجات تسابقوا خلفها ولو أودت بحياتهم، يقولون نحن في عصر حرية الرأي لكن آراءهم أسلَمَتْ قيادها لأولئك المشاهير والـ«فاشينستات»، وينظّرون عن الاقتناع المبرر وهم يجرون خلف غيرهم دون وعي!

إن ما تفعله كبريات شركات الإعلام الحديث ليس مجرد تطبيقات تجعل الحياة أسهل، بل هي خطط ممنهجة ومدروسة بعناية وتسير وفق جدولها الزمني، وتحوّل البشر دون أن يشعروا إلى «روبوتات» مسلوبة الإرادة «طوعاً»، تبحث بتعطّش بالغ عمّا تسوقه تلك المنصات من منتجات، وتتبنى سريعاً ما تطرحه من أفكار يتم تصميمها وتسويقها من مفكرين ومثقفين يشار لهم بالبنان أمّا «مشاهير الغفلة» فهم يخدمون مرحلة آنية تهدف لتهيئة المسرح الرئيسي لكي يبدأ اللاعبون الكبار بنشر كثير من طروحاتهم المرتكزة على التشكيك في ثوابت الأيديولوجيات الأصيلة لدى الشعوب وتمييع هيبة الدول، فإن تم تفكيك أصول تلك الثوابت فإن مسخ هوية تلك المجتمعات سيكون مسألة وقت لا أكثر!

نتحدث كثيراً عن الولاء للأوطان، ويجتهد إعلامنا مشكوراً في إنتاج البرامج التلفزيونية وإذاعة الأغاني الوطنية التي يُراد بها تعزيز تعلّق الإنسان بأرضه وحرصه عليها وولاءه لقيادتها، ولكن من يشاهد التلفزيون أصلاً؟ ومن قال إنّ ما كان مفيداً قبل أربعين عاماً يصلح الآن في عالم مختلف وجيل مختلف، إنّ النوايا الحسنة لا تكفي، وما كان سبب نجاحك سابقاً قد يكون سبب فشلك حالياً إنْ لم تغيّر أساليبك وتفكّر كتفكير الناس أنفسهم لا تفكيرك أنت نيابة عنهم!

يذكر التقرير السنوي لشركة الاستشارات الشهيرة PwC أنّ عوائد قطاع الإعلام الحديث وصلت 666 مليار دولار عام 2017، ويتوقع أن تتجاوز 792 ملياراً بحلول عام 2022، الملفت في النظر كان تعليق خبيرها التقني مارك مكافري والذي قال «إنّ هناك تركيزاً من هذه الشركات على تجربة العميل وعلى ولائه، وعلى خلق علاقة أكثر مباشرة معه»، لاحظوا ذكر كلمة الولاء، وليعذرني من يقول إنه ولاء لمنتج، بل هو منتج يحوي أفكاراً بداخله ويتطلب تعلقاً أكثر بتلك المنصة وتبنّي ما تقدمه، هذه الجزئية هي ما يطلق عليها نقطة الالتقاء Convergence والتي تنزع وتتجاوز فعلياً كل الحدود الجغرافية وتصل لمن تشاء ووقتما تشاء من خلال بث شبكاتها الجديدة مثل Netflix أوAmazon Prime أو من خلال منصات الشبكات الاجتماعية، حيث لا سيطرة على طرح ونمط المعروض، بل المرعب فيه هو قدرته على إبقاء العميل لساعات طويلة متسمراً أمام هذا المعروض وخلق حالة تعطش لا تتوقّف وهو ما يفشل فيه بشدة الإعلام التقليدي الذي ما زال يتعامل مع الألفية الجديدة بأساليب سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي!

إنّ منعطف التفوّق الذي أسقطت به وسائل الإعلام الحديثة الإعلام التقليدي هو منح المسرح لمن يشاء ليعرض قصته تحت شعار Tell us your story، لتعزف جيداً على وترين حساسين للغاية في النفس البشرية: حب الظهور والشهرة ليعرض كل تفاصيل حياته ويتصنّع حياة مثالية ليثير إعجاب كل من سيشاهده، وإشباع الفضول في التطفل «الـمُشَرْعَن» في تتبع يوميات أكبر قدر ممكن من الناس على سناب شات وأمثالها!

أمر آخر لصالحها كان سرعة التأثير وسرعة التفاعل، فالردود على أي تغريدة أو فيديو أو منشور يحظى بردود فورية وتصل خلالها الفكرة حسنة كانت أو مغلوطة بشكل فائق السرعة، وهو أمر يروق كثيراً لغالبية البشر لتعزيز قيمة أحدهم كشخص مهم بالطريقة التي اختارها لنفسه لبيان تلك الأهمية، هذه السرعة هي ما جعلت حتى مؤسسات الإغاثة خلال الكوارث الطبيعية تعتمد اعتماداً كبيراً على منصات التواصل الاجتماعي لقدرتها على نشر التعليمات والتنبيهات بشكل سريع للغاية وتفوقها في سرعة حشد المتطوعين والمتبرعين للمشاركة الفورية في إنقاذ المناطق المهددة، بل حتى مؤسسات العمل الخيري أصبحت تستطيع جمع تبرعات لحالات علاجية حرجة في ساعات معدودة!

الإعلام التقليدي يحتضر والرهان عليه مضيعة للوقت وما لم يتم تشكيله بصورة تحاكي الإعلام الذي يريده الناس، فإن الصيادين سيواصلون نصب الشباك في مجتمعاتنا والعصافير ستسقط كثيراً لأن البديل غائب والفخ لا يبدو مريباً!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عالم الحدود المنزوعة عالم الحدود المنزوعة



GMT 21:31 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

كهرباء «إيلون ماسك»؟!

GMT 22:12 2024 الثلاثاء ,22 تشرين الأول / أكتوبر

لبنان على مفترق: السلام أو الحرب البديلة

GMT 00:51 2024 الأربعاء ,16 تشرين الأول / أكتوبر

مسألة مصطلحات

GMT 19:44 2024 السبت ,12 تشرين الأول / أكتوبر

هؤلاء الشيعة شركاء العدو الصهيوني في اذلال الشيعة!!

GMT 01:39 2024 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

شعوب الساحات

GMT 19:13 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 16:12 2018 الأحد ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

خليفة و بن راشد وبن زايد يهنئون رئيس بنما بذكرى الاستقلال

GMT 13:59 2015 السبت ,31 تشرين الأول / أكتوبر

تصاميم على شكل الماس لحقائب "إن إس باي نوف"

GMT 10:32 2016 الجمعة ,04 آذار/ مارس

لوني شتاءك بأجمل موديلات الأحذية الـ Pumps

GMT 01:32 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

عيش الرفاهية في فنادق ومنتجعات الجميرا الفخمة

GMT 01:28 2019 الأربعاء ,25 كانون الأول / ديسمبر

«بنتلي» تفوز بلقب الشركة الأكثر تقديرًا في بريطانيا

GMT 23:18 2019 السبت ,12 كانون الثاني / يناير

الزمالك يهزم بتروجيت في دوري كرة الطائرة المصري

GMT 19:14 2018 الخميس ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

تعرفي على خطوات رئيسية لترتيب خزانة ملابسكِ الخاصة

GMT 11:52 2018 الأحد ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

6 أفكار أنيقة مميزة لزينة حفلات الزفاف

GMT 07:51 2013 السبت ,27 تموز / يوليو

جمال كامل فرحان يصدر رواية "كان ردائي أزرق"

GMT 04:48 2018 الثلاثاء ,19 حزيران / يونيو

رواية "الجنية" تمزج الواقع بالخيال بشكل واقعي

GMT 19:29 2013 الأربعاء ,22 أيار / مايو

خيبة المثقف في"طائف الأنس" لعبدالعزيز الصقعبي
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates