الخجل من الفضيلة

الخجل من الفضيلة!

الخجل من الفضيلة!

 صوت الإمارات -

الخجل من الفضيلة

عوض بن حاسوم الدرمكي
بقلم - عوض بن حاسوم الدرمكي

مما تعلمناه منذ نعومة أظفارنا، أنّ الله تعالى خلق البشر لإعمار الأرض، وأنّ التمايز الذي حدث بينهم كشعوب مختلفة وقبائل متباينة، كان مدعاة للتواصل والتعارف والتكامل، ومنذ بدء الخليقة، ومشعل الحضارة ينتقل من كفٍ إلى كفٍ أخرى، وهي سُنّة ربانية لا تتغيّر، فالأقوى والأكثر جاهزية والأشد تمسكاً بعقيدة تجمع حولها أنصارها بقيّم صلبة، هي من يقود الرَكْب، فإذا ما أصاب قيمها وأخلاقها العَطَب، انحلّت تدريجياً، وانفرطت كما تنفرط حبّات السُّبْحة إذا انقطع خيطها!

لا خلاف أنّ الغرب يقود ركب الحضارة منذ قرابة القرون الخمسة، حينما أسقطت المدافع اللومباردية لفرديناند وإيزابيلا غرناطة بني الأحمر، ولا نختلف أيضاً أن التقدم التقني والمعرفي الذي حدث في العقود الأخيرة، لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية الطويل، هذا التقدم المادي الكبير، أصبح موازياً لانحدار أخلاقي كبير، جعل الشُقَّة تتزايد بين الدول الغنية والفقيرة، فكميات الطعام الزائدة التي تُرمى في الولايات المتحدة الأمريكية لوحدها سنوياً، تكفي لإطعام الثمانمئة مليون جائع في الدول البائسة، لكن لا أحد يهتم، لأنّ الرأسمالية، والتي تسمّيها الكاتبة الكندية الشهيرة نعومي كلاين بـ «رأسمالية الكوارث»، تقوم على تعزيز قيمة الفردانية Individualism، حيث يكون الفرد ورغباته هو مركز الاهتمام الوحيد، لذا، لم يكن مستغرباً أن نسمع صوتاً حكيماً ينطق بما يدور في خَلَد الكثيرين من عقلاء الغرب، ولكنهم لا يجرؤون على طرحه بهذه الصراحة، إذ يقول الفيلسوف الفرنسي المعاصر موريس بيلي: «إنّ العالَم يقتفي أثر الغرب، والغرب يهيم بلا وجهة»!

هو بالتأكيد لا يقصد أنّ «التَوَهان» في ما يتعلق بالمنجزات المادية من تقنية ومنتجات استهلاكية ومخترعات وأبحاث ومكتشفات، ولكنه يقصد المنحى الأخلاقي ومنظومة القيم التي تمزّقت أرديتها، حتى لم تَعُد تَسْتُر شيئاً أو كادت، هناك مدنية متوهجة، ومعها بشرية محبطة، زيادة في الاختراعات، وزيادة تقابلها في معدلات الجرائم بكل أنواعها، تقنيات جعلت الحياة كأسهل ما يكون، وبموازاتها نِسَب انتحار عالية، واستهلاك متزايد على عقاقير محاربة الاكتئاب، والجري خلف دورات وكتب مساعدة الذات، والتي دعت أحد أشهر كتابهم، وهو ستيف ساليرنولكي، أن يؤلف كتاباً عنوانه «كيف جعلت حركة مساعدة الذات أمريكا دون مساعدة» How the Self-Help Movement Made America Helpless

 

هذا السقوط الأخلاقي الذي يُعاني منه الغرب، ويُحذّر منه كبار مفكريه، يريد البعض فرضه على مجتمعاتنا بطريقة محمومة، ما يمكن ملاحظته بالتأكيد، أنّ هناك ضغوطاً لا يُعرَف مصدرها، تكاد تجتاح كل المنصات الحديثة التي يتواصل فيها الناس، حماسها في الغالب لتدعيم ما تقوله عن «الحرية الشخصية»، وربما أكثر ما لاكته ألسنة عرّابيها، هي جملة «دعوا الخلقَ للخالِق»، والتي غالباً لا تُقال إلا لتمرير فعل أو قول يُصادم دين وأعراف المجتمع السوي، ومحاولة إسقاط قيمة الفضيلة!

العجيب في فعل «ربعنا» هؤلاء، أنّ الفضيلة والدعوة لها أصبحت مزعجة لهم، والدعوة لمكارم الأخلاق وإعلاء شأن الحياء، مما يجعل الإنسان مناكفاً للحضارة ومتعارضاً مع المدنية، وعندما يضع أحدهم فيديو لطفل يحاول قراءة القرآن، أو صورة طفلة ترتدي الحجاب، تثور ثائرتهم، ويتباكون على «قتل براءة» هؤلاء الأطفال، وزرع «العُقَد» فيهم مبكراً، بينما تجدهم ينشرون مبتهجين فيديوهات أخرى لطفلة بنفس السن ترقص، وبلباس شبه عارٍ، يحاكي لبس مغنية شهيرة، فأي مقياس مقلوب أصبح لدى البعض؟ وأين قاعدة «دعوا الخلق للخالق» للحالة الأولى؟.

المريب في الموضوع وتوقيته، هو المنعطف الكبير الذي حدث في الإعلام المرئي، فقنوات مثل نتفلكس وأشباهها، جعلت أحد مرتكزات تنافسيتها مع القنوات التقليدية في تكثيف المشاهد الإباحية في غالبية ما تطرحه من مسلسلات، وأصبح إقحام المشاهد الساخنة، وإدخال عناصر لتمثيل المثليين من الأمور «الطبيعية»، والتي يراد للجميع أن يراها بذات الطريقة، وهي بالتأكيد ليست محاكاة للواقع كما يقولون، ولكنها محاولة عنيفة لتحطيم الفضيلة والمنظومة الأخلاقية، وأعراف المجتمعات المحافِظة، بالطبع نجح هذا الإعلام الغربي والمتغرّبون خلفه من بني جلدتنا، في جعل صفة «المحافِظة» رديفاً للتخلف والانغلاق ورفض الحضارة!

إنّ إسقاط القيم والأخلاق الفاضلة، ليس سُلّماً للحضارة، ولكنه مزلق للسقوط الإنساني بكل تفاصيله، وليت من يستشيط غضباً عندما يرى ظاهرة مجتمعية ذات تأصيل إسلامي أو أخلاقي، ويعلو صوته بأننا لن نتطوّر ما دمنا نفعل هذه الأمور، ويفور دمّه عندما نذكر دليلها من القرآن أو السنّة، ليته يهدأ، لكي يعلم أنه لا تلازم إطلاقاً بين المدنية والدين السليم والأخلاق السامية والفطرة السوية.

ليست المدنية من تجعل كهنة الانفلات يحاربون الفضيلة، ولكنها البهيمية والشهوانية المسعورة، فلا علاقة بين خلع الملابس وبين اختراع جهاز ينفع البشرية، ولا رابط بين مهاجمة الدين وحدوده، وبين اكتشاف الثقوب السوداء في الكون، ولا تلازم بين الحطّ من قدر الإمام البخاري والسنة النبوية، وبين هندسة الجينوم أو الفيزياء الكمية، إنّ الحقيقة المرّة تقول إنّ المتعرّين والداعين للعري، لا يبحثون عن «الاكتشافات» العلمية، ولكن يبحثون عما يريدون أن «يتكشّف» لهم!

إنّ الأمة التي تفقد عقيدتها، وتتنازل عن قيمها وأخلاقها، وتُصدّق ترهات المنفلتين مِن كل شيء، لن يمر وقت طويل حتى تجد نفسها في وضع بائس، فلا هي أدركت ركب الدول المتحضرة صواحب الاختراعات والاكتشافات المتقدّمة، ولا هي بقيت طاهرة الثوب، تقف على أرضٍ صلبة من «حضارة الأخلاق»، فهي تبعت الغرب كالبقية، والغرب يهيم دون وجهة، لكنّ الفارق أنّها تتبعه، وقد أضاعت طوعاً أغلى ما تملك!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الخجل من الفضيلة الخجل من الفضيلة



GMT 21:31 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

كهرباء «إيلون ماسك»؟!

GMT 22:12 2024 الثلاثاء ,22 تشرين الأول / أكتوبر

لبنان على مفترق: السلام أو الحرب البديلة

GMT 00:51 2024 الأربعاء ,16 تشرين الأول / أكتوبر

مسألة مصطلحات

GMT 19:44 2024 السبت ,12 تشرين الأول / أكتوبر

هؤلاء الشيعة شركاء العدو الصهيوني في اذلال الشيعة!!

GMT 01:39 2024 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

شعوب الساحات

GMT 18:55 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
 صوت الإمارات - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 18:59 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
 صوت الإمارات - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 06:14 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

العاهل الأردني يلقي خطاب العرش في افتتاح مجلس الأمة العشرين
 صوت الإمارات - العاهل الأردني يلقي خطاب العرش في افتتاح مجلس الأمة العشرين

GMT 19:13 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر
 صوت الإمارات - الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 19:11 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25
 صوت الإمارات - "نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25

GMT 01:44 2018 السبت ,29 كانون الأول / ديسمبر

جيمي أيوفي يستمتع مع أسرته في "أتلانتس دبي"

GMT 10:11 2012 الثلاثاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

وزير الطاقة الإثيوبي: في طريقنا لاستكمال مشروع سد النهضة في 2015

GMT 19:07 2018 الأحد ,28 تشرين الأول / أكتوبر

اسباب تضخم الكبد وطرق العلاج

GMT 18:36 2018 الأربعاء ,17 تشرين الأول / أكتوبر

صفّ السيارات يتسبب في مشاجرة بالضرب بين رجل وفتاة في تكساس

GMT 20:58 2013 الأحد ,01 كانون الأول / ديسمبر

أول اجتماع لرئيس التليفزيون لبحث تطوير القنوات المصرية

GMT 06:43 2015 الجمعة ,19 حزيران / يونيو

الطقس في الإمارات الجمعة مغبرًا جزئيًا

GMT 01:51 2016 الثلاثاء ,29 آذار/ مارس

افضل التصاميم البارزة لأحذية ربيع 2016

GMT 11:53 2013 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

اختتام مسابقة الخطابة باللغة العربية للجامعات الصينية

GMT 22:33 2018 الجمعة ,09 شباط / فبراير

إطلالة مثيرة للموديل هايدي كلوم في حفل "أمفار"

GMT 02:28 2014 الثلاثاء ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

"الإسلاميّون" يعتبرون "العلمانيّة" ارتدادًا عن الدين

GMT 14:55 2017 الثلاثاء ,26 كانون الأول / ديسمبر

طاهية تصنع قطار من خبر الزنجبيل "بالحجم الطبيعي" في سيدني

GMT 22:11 2013 الأربعاء ,29 أيار / مايو

الموسيقى المعاصرة على "راديو فرنسا" الأربعاء

GMT 03:26 2013 الجمعة ,07 حزيران / يونيو

مجدي يعقوب يجري 3 عمليات "قلب مفتوح"

GMT 15:12 2013 الإثنين ,30 أيلول / سبتمبر

جامعة عثمانية إحدى أبرز جامعات الهند وآسيا

GMT 18:29 2013 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

الجامعة الأميركية في الإمارات تنظم مؤتمرًا عن "الناتو"
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates