بقلم - عوض بن حاسوم الدرمكي
في يوم قائظ، استظل أبو الطيب المتنبي ورفيقه في السفر بحائط دارٍ، رفض أصحابها أن يُقْروهم أو حتى أن يعطوهم شربة ماء، ثم ما إن غلب النعاسُ عينيه حتى انسلّ صاحب الدار، واسمه «ضُبّة» ومعه أُمّه، فسرقا كل حاجات المتنبي وصاحبه، وعادا وأغلقا الباب، فلما استيقظ الشاعر، الذي اعتاد ألا يُنشِدَ شِعره أمام أمير بني حمدان إلا جالساً، وألِفَ مُجالدة الأعداء في ساحات المعارك، حتى قال إن مجده لا يكون إلا بــ:
وتضريب أعناق الملوك وأن ترى
لك الهبوات السود والعسكرُ المَجْرُ
فجُنّ جنونه وحُقَّ له ذلك، ولكن انفعال المتنبي جعله يهجو السارق، وأمّه بقصيدة شنيعة، تخجل من ذكر تمامها أغلب طبعات ديوانه، لما بها من تعريض فاحش لم يأتِ إلا من انفلات عقل قبل أن يكون انفلات أعصاب، كانت تلك القصيدة المنفعلة سبباً في أن يقتفي أثره خال ضُبّة فاتك الأسدي لأشهر طويلة حتى لحق به مع ثلاثين مقاتلاً، وقتل المتنبي وابنه معه.
الإنسان يكون في سِعة من الحال ما لم يتلفّظ بأمر سيئ تجاه الآخرين، أو يقوم بعملٍ غير مقبول يمسّهم، وكم كرّر العرب مقولة «رُبَّ كلمةٍ قالت لصاحبها: دعني»، لكنها لا تعدو أن تكون جُملة تُلاك بالألسنة كثيراً، لكن من يعمل بمقتضاها قِلّة، لذلك ليس مستغرباً أنّنا نقرأ الكثير من الكتب وشطر منها عمّا يسمى «تطوير الذات» وتجد بعضنا يضعون مقاطع من نصائحها أو فوائدها في مواقع التواصل الاجتماعي، وينافح عنها، ويضرب عليها الأمثلة زيادة في الإيضاح، لكن ما أن يتعرض ذات الشخص لموقف مشابه حتى يكفر بكل ما نقل وما «صدّعنا» به، وفي أحسن الأحوال سترى انتقائية يضعها لنفسه، وبنفسه عمّن يجدر أن نطوّف لهم، ومن لا يجدر بهم، ومَن نعامله بأدب ومن «نستخسر» الأدب فيه!
لا يجدر بالعاقل الذي يحسب للأمور حسابها، ولو بعد حين، أن يترك ردّة فِعله دون خطام أو زمام، فما تزرعه في لحظة انفلات أعصاب، ستعاني مرارته لاحقاً، ولفترات قد تطول، فالبشر لا تتسامح مع الإساءة التي تطالها، وتنال من سمعتها، وإنْ تظاهرت بأنها نَسَيت وبأنّ «الأمور طيبة»، هي في الغالب ليست كذلك، فمن يبذر الريح لن يجني إلا العاصفة، ومن قضى زمنه في صُنع عداوات واختلاق صراعات لمآرب كثيرة، لن يكفيه ما تبقّى له من عُمر في إطفاء تلك النيران، التي أشعلها، ولن تنفع آلاف الكلمات الجميلة اللاحقة في إزالة جُرحٍ غائر تركته كلمة طائشة خلال ردّة فعلٍ غير متزنة أو «عيش» دور البطل، الذي لا يأبه لأحد.
إن الحماسة الغريبة، التي نراها من البعض في الإساءة للآخرين، والدخول في نيّاتهم، أو تحميل مجتمع كامل أخطاء أفراد منه، وشَمْل الجميع بسيئ القول من باب «Select All»، لهو أمر لا تُحمَد عواقبه لا على المدى الزمني البعيد ولا حتى القصير، فحجم الكراهية التي بتنا نراها على وسائل التواصل الاجتماعي وحروب داحس والغبراء المستعرّة فيها، أمر لا يطيب به إلا قلب كل كارهٍ لمجتمعاتنا، وليس أسوأ من المسيء، إلا ذاك الذي تراه يصفق لهم، ويضفي على الإساءات المسميات البرّاقة، ولا يعدو وضعهم مع أصحابهم إلا كالشياطين التي «تؤزّهم أزاً».
في الحديث الشريف: «أنا زعيمٌ ببيتٍ في ربض الجنّة لمن ترك المراء وإنْ كان مُحقّاً»، فالجدال لا يأتي استمراره بخير، فلو كان طرفاه ينشدان الحق لتوقّف بظهور دلائله، فإذا استمرّ كان ذاك برهان على مكابرة مَن ظهر الحق عليه، فيكون في استمرار الجدال توسعة الجفوة بين الطرفين، وربما ملء النفوس بالكراهية، فمن باب سدّ الذرائع المؤدية، لذلك من الواجب أن تتوقف وإنْ كانت أدلتك أظهر، فما بالكم بمن يتعمّد الإساءات، وينبّش في أحوال الناس لكي يبنى على حالة شاذة أو موقف يتيم كانت له ملابساته الخاصة حُكماً عامّاً جائراً على ذلك الشخص أو ذلك المجتمع.
إنّه مِن المحزن أن نرى تسابق دول العالم على الانضمام لدول النخبة في العلوم والاكتشافات، بينما تضيع طاقات وأوقات شرائح كبيرة من شبابنا في المناكفات، واستعداء الآخرين والتسابق في تجاوز كل الخطوط الحمراء دينياً وعُرفياً وأخلاقياً، هم يبذرون لقادم الأيام زرعاً لن يعجبهم حصاده، لأنهم لم يُحسِنوا الحِسبة، تماماً كما لم يُحسِن حِسبته قبلهم المتنبي.