بقلم - عوض بن حاسوم الدرمكي
وَفَدَ الأحنف بن قيس على معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، فقال له معاوية: «أنت الشاهر علينا سيفك يوم صفين والـمُخَذِّل عن عائشة أم المؤمنين!»، فرد عليه الأحنف: «لا تؤنبنا بما مضى منا، ولا تردّ الأمور على أدبارها، فإن القلوب التي أبغضناك بها بين جوانحنا، والسيوف التي قاتلناك بها على عواتقنا»، فلما خرج قالت أخت معاوية: «من هذا الذي يتهدّد؟».. قال: «هذا الذي إنْ غضب؛ غضب لغضبه مائة ألف سيف من تميم، لا يدرون فيم غضب»!
لن ينقطع خلاف بين البشر مهما تقاربوا، ولن يُعدَموا مناكفة مهما تحابّوا، ولا يُذَم من الخلاف إلا دائمه، و لا يُستهجَن من المناكفة إلا مُستمرّها، فالخلاف يقع لسبب ويذهب بذهابه، وتنكّر القلوب لبعضها عند مواقف معينة، لا يعني لزاماً أن تتقطّع بينها وشائج المودّة للأبد، وما دام بين الناس أهل خيرٍ يسعون للإصلاح بين المتخاصمين، ويعملون على ردم هوّة الجفاء بينهم، فإنّ مآل الأمور إلى خير، وإنْ طال أمد الخلاف، واتّسعت شُقّة الخصام.
المهم أن يكون هناك تفهّم للمتوقّع بعد إصلاح ذات البين، فالنفوس لا تنسى بسهولة كل شيء، والقلوب ستكون محمّلة بالكثير من تَرِكة الأمس من أضغان وغضب ولوم، تماماً كمن تُخاط جراحاته الغائرة وتُعالَج، فأدنى مساس بمكان الجرح سيعيد الوجع للاستيقاظ من جديد، فضلاً عن أن الإنسان ذاته يحتاج إلى وقت كافٍ حتى يعود لطبيعته، فالمصالحة لا تعني حمل ممسحة ونسيان كل شيء، بل تعني تحمّلاً من الجميع و«تطويفاً» للكثير من عوالق النفوس وأحمالها حتى تتحرّك السفينة إلى رحاب أوسع، وتبدأ غُصَص الأمس في التلاشي تدريجياً.
لم تكن خافية فرحة أهل الخليج أجمعهم بالمصالحة، التي تمّت بين القادّة الأشقاء بعد أكثر من ثلاث سنين من القطيعة، والتي خلّفت الكثير من الصفحات المحزنة، التي لا نتمنى أن نراها مرة أخرى، ولئن كان سبب الخلاف واضحاً ومبرّراً، فإنّ ما جرى لاحقاً عندما دخلت فئات من الشعوب في الوقوف مع هذا الطرف أو ذاك لم يكن محموداً، فكما كانت هناك نقاشات عقلانية ومدافعات منطقية كانت بموازاتها سجالات أكثر من العراك اللفظي، الذي انحدر مع الوقت لمستويات غير مسبوقة لم نعتد عليها كوننا شعوباً خليجية يجمعها كل شيء، ولا يفرّقها إلا حدود جغرافية فقط، ورأينا وقيعة في الأعراض وشتائم يندى لها الجبين، وسقوطاً غير مبرر مهما كان الخلاف، وهي أمور لن تُنسى بسهولة، وتبيّن لنا حجم الخطأ الذي ارتُكِب بترك المجال مفتوحاً لمن شاء لكي يقول ما يريد.
لم يحدث أبداً في تاريخ البشر أنّ ردّ الإساءة بالإساءة عاد بخير، فالحطب المشتعل لا ينطفئ بإلقاء حطب آخر فوقه، وقد كان التوجيه الرباني واضحاً للنبي، صلى الله عليه وسلم، وكل مؤمنٍ يتبعه: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)، وهو الأمر الذي بَرَعَ فيه معاوية، رضي الله عنه، وكان مضرب المثل في الحِلْم والتغافل عن الزلات والبناء للبعيد، فقد روي عنه قوله: «لقد كنتُ ألقى الرجلَ من العرب أعلم أن في قلبه عليّ ضِغْناً، فلا يزال يوسعني شَتْماً وأوسعه حِلْماً حتى يرجع صديقاً أستعين به فيعينني وأستنجده فينجدني»!
في هذه الأيام القليلة، نقرأ من بعض المخذّلين والمنتفعين من بقاء الخلاف غمزاً ولمزاً، يميناً ويساراً، ومحاولة نبش ما يجِب أن يُترَك لولاة الأمر فقط، وسعي لاستفزاز جميع الأطراف، وهي مزالق لا بد أن نبتعد عنها، ولا ننساق لمثيريها، ولنترك تلك الملفات لأربابها، وننشغل بما فيه مصلحة أهلنا وبلادنا بعيداً عن المساهمة في إذكاء نار فتنة يؤججها من لا يطيب له أن يرانا على قلبٍ واحد.
سنكون بخير إن تُرِكَت الأمور الكبيرة لأهلها الكبار، وانشغل كل شخص بما يعنيه وترك مالا يعنيه، فيُروى أنّ رجلاً جاء إلى الإمام الجليل أبي زُرعة الرازي فقال: «إنّي أُبغِضُ مُعاوية، فقال له الإمام: لـِمَ؟، قال: لأنّه قاتَل عَليّاً!، فقال: «ربُّ معاوية ربٌّ رحيم، وخصمُ معاوية خصمٌ كريم، فما دخولك بينهما؟».