فاقد الشيء لا يُعطيه

فاقد الشيء لا يُعطيه

فاقد الشيء لا يُعطيه

 صوت الإمارات -

فاقد الشيء لا يُعطيه

عوض بن حاسوم الدرمكي
بقلم - عوض بن حاسوم الدرمكي

كان أحد صغار الموظفين يهم بالخروج من مكاتب المؤسسة في وقت متأخر بعد أن أظلم الوقت، انتبه لوجود المدير واقفاً أمام ماكينة تقطيع الورق يحمل بيده ملفاً مليئاً بالأوراق، وما أن رأى الموظف حتى ناداه ليساعده، ثم سلّمه الملف وهو يقول له: «هذا ملف شديد الخطورة، وسكرتيري غير موجود، هل تستطيع مساعدتي لتشغيل هذه الماكينة ووضع الأوراق بها؟»، «بالتأكيد يا سيدي» قالها الموظف سريعاً قبل أن يبدأ في وضع الأوراق واحدة تلو الأخرى في الماكينة وهي تُقطّع الأوراق بداخلها بالتدريج، ابتسم المدير وهو يضيف: «رائع، أحتاج نسختين من كل ورقة منها»!

بداية لا يصح أن نضع الجميع في كفّة واحدة، فهناك العديد من المؤسسات الناجحة التي تشير أصابع منجزاتها إلى قياداتها الرائعة، فالقائد الناجح تتحدث أعماله نيابة عنه، ترى ذلك في جودة بيئة العمل الداخلية، وفي افتخار الموظفين بالانتساب لتلك المؤسسة وتهافت الموهوبين للعمل بها، وتتضح أكثر في معدلات رضا المتعاملين العالية التي تحققها خدماتها وطريقة تقديم تلك الخدمات، هذه المؤسسات وقادتها الاستثنائيون هم مَن نتمنى أن يكونوا القاعدة العامة، فبهم يتطور البلد وتجد الحكومة أدوات قوية تساعدها لتحقيق مشاريعها الطموحة لمستقبلٍ مختلف، في هذا المقال سنتوقف عند الطرف الآخر، الطرف الذي يشكّل صداعاً للوطن ومَن به ويكون بدون انتباهٍ منه حجر عثرة كؤود أمام تحقيق الطموحات الكبرى!

 

تبدأ مآسي المؤسسات عندما يتولى مسؤولية إدارتها شخص يصح فيه قول القائل «تسمع بالـمُعيدي خيرٌ لك مِن أن تراه»، وتتعثر أكثر عندما يُمسِك دفّتها مَن يملك الحماس دون المعرفة، والرغبة دون الرؤية، ويسبقها البقية عندما يكون أقصى ما يريده مديرها تحقيق انتصارات سريعة ونجاحات عاجلة بأية وسيلة كانت، دون اعتبار لما يمكن أن تؤول إليه الأمور في قادم الأيام جرّاء هذا البحث المحموم عن منجزات سريعة تُسلّط بعض الأضواء الساذجة على هذا الشخص وتُلمّع صورته، قبل أن تنكشف الأيام عن تَبَعات قراراته المتسرّعة وضبابية رؤيته للمستقبل، وما يمكن أن تجرّه هذه القرارات العنترية على كفاءة أداء المؤسسة وتأثر المحيط بها من مؤسسات أخرى ومتعاملين، بل وما قد يمس البلد جرّاء ذلك.

ضبابية الرؤية هي ما تجعل المدير منذ أول يوم عمل يُبلِغ مساعديه بأنْ يُعدّوا له قائمة مستعجلة بالنجاحات السريعة Quick Wins التي يستطيعون إنجازها فوراً ليرى مَن وَضَعه أنه كفء للمنصب، ويرفض بشكل قاطع أي نقاش عن مشكلات العمل أو الخلل الموجود والذي لا يجعل المؤسسة تعمل بصورة طبيعية، هنا «سعادته» يرى أن دور المؤسسة هو أن تقوم بتلميعه أمام كبار المسؤولين، وليس دوره هو أن يقوم بإصلاح خللها ورفع قدراتها وتطوير خدماتها و«تلميعها» أمام المجتمع.

ضبابية الرؤية هي ما تدفع المدير للبحث عن المطبّلين له، والمصفقين لتوجهاته مهما كانت قاصرة، ويُبعِد عنه من تكون أطروحاته مخالفة لرأي سعادته حتى لو كانت منطقية وتنمّ عن معرفة كبيرة لصاحبها، المؤلم هنا أنّ هذا الإبعاد يُتْبَع أحياناً بوضع «دَمْغَة» على سمعة هذا الموظف الكفء بأنه «غاوي مشكلات» وفيلسوف و«مُنظِّر»، وتُنقَل هذه المعلومة المجحفة للإدارة القادمة، والتي ستعامله هي الأخرى وكأنه طريداً للعدالة!

ضبابية الرؤية أيضاً هي ما تجعل المدير ينسى أنّ المؤسسة الخدمية، سُمّيت خدمية لكي تخدم قطاعات معينة من المجتمع المحلي بأفضل جودة ممكنة وأسرع وقت، لكنه يظن أن دورها أن تجعل المتعاملين يخدمونها، وتقوم بإرهاقهم برفع رسوم تلك الخدمات بِنِسَب قائمة على المزاج، والرغبة في «تكويش» أكبر قدر ممكن من الأموال، لتضخيم بند الإيرادات بالميزانية، لكي يفتخر بأنه حقق ما لم يحققه مَن سبقه، فيئن الشخص البسيط من تلك الزيادات المرهقة، ويتأثر التاجر، ويهرب المستثمر، و«يتوهق» سعادة المدير في العام التالي عندما يرى الأرقام تتناقص، لأن أهل الأموال ممن يُحرّك الاقتصاد هربوا لمكان آخر لا تلعب به مزاجية الأخ، وبحثه المحموم عن المديح!

ضبابية الرؤية هي ما تجعل المدير في سعيه للحفاظ على الكرسي، لا يكترث أبداً بوضع برامج لتطوير صف ثانٍ من القادة للحفاظ على مكتسبات المؤسسة، وإعداد جيل قادر على تطوير أعمالها ورفعها لمستويات أعلى، بل ما يحصل هو أن يقوم بملء المناصب القيادية التالية له بكفاءات متواضعة أو متوسطة في أحسن الظروف، حتى لا يُشكّل أياً منهم خطراً على منصبه في قادم الأيام، بل يتم التضييق على الموهوبين ليطفشوا ويخرجوا غير مأسوفٍ عليهم!

ضبابية الرؤية هي ما تجعله لا يوجه جهوده لتطوير إجراءات العمل، وتحسين نوعية الخدمات المقدمة، وتنقية أجواء بيئة العمل الداخلية، لتكون مُحفّزة للموظفين لتقديم أفضل ما لديهم، ولكنه عوضاً عن ذلك يوجهها للبحث عن القشور والشكليات، التي من شأنها أن تُلمّع صورته كشراء جوائز من مكاتب لم يسمع بها حتى «غوغل» نفسه، أو الاحتفال كل عام بالحصول على شهادات الأيزو، والتي يعلم كل موظف بالمؤسسة أن إجراءاتها ومتطلباتها لا تُطبّق أبداً، لكنها توثّق في التقارير للحصول على الشهادة لا أكثر!

إنّ ما يُفتَرَض بقائد المؤسسة هو أن يكون أشبه بقائد فرقة أوركسترا، لا بد أن يجعل ظهره باتجاه الجمهور ومواجهاً لفرقته، حتى يستطيع ضبط إيقاع تلك المعزوفة قبل أن يحصل الجميع على التصفيق في النهاية، المشكلة عندما يُصرّ قائدها أن يواجه الجمهور لتتسلّط عليه الأضواء طيلة الوقت، ويختص وحده بالتصفيق، بينما يتخبّط مِن خلفه أفراد الفرقة، فيأتي العزف نشازاً متضارباً، وما أن تعلو صيحات استهجان الجمهور، حتى يبحث سريعاً عن كبش فداء مِن معاونيه، دون أن يرى نفسه المخطئ تماماً، كما تم إنهاء خدمات الموظف الذي وضع الأوراق في ماكينة التقطيع بناءً على أوامر سعادته!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

فاقد الشيء لا يُعطيه فاقد الشيء لا يُعطيه



GMT 21:31 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

كهرباء «إيلون ماسك»؟!

GMT 22:12 2024 الثلاثاء ,22 تشرين الأول / أكتوبر

لبنان على مفترق: السلام أو الحرب البديلة

GMT 00:51 2024 الأربعاء ,16 تشرين الأول / أكتوبر

مسألة مصطلحات

GMT 19:44 2024 السبت ,12 تشرين الأول / أكتوبر

هؤلاء الشيعة شركاء العدو الصهيوني في اذلال الشيعة!!

GMT 01:39 2024 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

شعوب الساحات

GMT 20:03 2020 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

يبشّر هذا اليوم بفترة مليئة بالمستجدات

GMT 08:02 2016 الثلاثاء ,01 آذار/ مارس

جورج وسوف يستقبل أحد مواهب"The Voice Kids" فى منزله

GMT 02:49 2017 الجمعة ,06 تشرين الأول / أكتوبر

وصفة صينية الخضار والدجاج المحمّرة في الفرن

GMT 14:30 2017 الخميس ,05 كانون الثاني / يناير

صغير الزرافة يتصدى لهجوم الأسد ويضربه على رأسه

GMT 10:56 2021 الثلاثاء ,23 شباط / فبراير

إذاعيون يغالبون كورونا

GMT 12:44 2020 الجمعة ,03 كانون الثاني / يناير

الريدز ومحمد صلاح في أجواء احتفالية بـ"عيد الميلاد"

GMT 07:32 2019 الخميس ,05 كانون الأول / ديسمبر

نيمار يقود باريس سان جيرمان ضد نانت في الدوري الفرنسي

GMT 00:59 2019 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

اتيكيت تصرفات وأناقة الرجل
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates