بقلم - عوض بن حاسوم الدرمكي
الناجحون لا يحلمون بمستقبلٍ مشرق وغدٍ أفضل، ولكنهم يخططون له جيداً ويوجّهون له كافة إمكانياتهم ويحشدون لأجله جهودهم ليجعلوه واقعاً مؤكداً، والقادة الذين بمقدورهم خلق الفارق لأوطانهم فلا يكتفون بالوقوف في خانة ردّات الفعل ولا يقبلون أبداً بأن يأخذوا ما يتركه الكبار، بل يكونون لهم نِدّاً لا تهزّهم شراسة التنافس ولا تُقْلِقهم قوة المتَحَدّين، فمن أراد شيئاً عظيماً لبلاده فلا بد أن يؤمن بضرورة أن يبذل الجهد العظيم الذي يتفق وذلك الطموح الكبير.
أثلج صدور شعبي المملكة السعودية ودولة الإمارات انطلاق أول اجتماعات مجلس التنسيق السعودي الإماراتي في المملكة برئاسة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز وولي عهد أبوظبي صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، والذي تم فيه الإعلان عن «استراتيجية العزم»، التي تهدف لإيجاد نموذج استثنائي للتعاون بين الدولتين الشقيقتين عبر توقيع 20 مذكرة تفاهم واعتماد تنفيذ 44 مشروعاً مشتركاً في مجالات الاقتصاد والتنمية البشرية والمعرفية والسياسة والأمن والمجالات العسكرية
إنّ التعاون بين الدولتين كان منذ بدايات تأسيس دولة الإمارات، ولطالما كانت المملكة الشقيق المحب والجار الصادق ودولة الوقفات المشرفة، وزاد التكامل بين الشقيقتين من خلال مجلس التعاون الخليجي ثم موقفهما الحازم والصريح من أُلعوبة الربيع العربي، والتي رسمها دهاقنة المكر الغربيون وحاك أحابيلها الخونة واحترقت بنارها الشعوب فأفسدوا حاضرها قبل أن يؤدوا مستقبلها بحياةٍ كريمة كبقية البشر، ثم تبلور التكامل أكثر في التحالف العربي لنصرة الشرعية في اليمن عندما قلّم «إخوان نورة» و«إخوان شمّا» وإخوانهم من دول التحالف أظفار الوجود الإيراني في جزيرة العرب وأوقفوا عبثه بأمنها واستقرارها، ليأتي مجلس التنسيق السعودي الإماراتي ليؤسس لمستقبل متوهج للعلاقة التكاملية بين البلدين على مختلف الصعد.
إن القادة الكبار هم من يصنعون المستقبل لأوطانهم، وهم أقدر الناس على تحديد المسارات واختيار الآليات التي تجعل من الخطط واقعاً ممكناً لا مجرد عروض «باور بوينت»، براقة توضع على الرف أو في الأدراج المنسية بعد الانتهاء من مشاهدتها، لذا كان اختيار المجلس وفرقه المختلفة وبلورة هيكله وبرامجه من خلال جلسات عصف ذهني على مستويات عليا في مختلف القطاعات بداية النجاح، فدون تخطيط جيد لا يمكن أن يتم إحداث تغيير كبير في الواقع المعاش.
إنه من المعلوم أن إحدى أهم ركائز القيادة الناجحة هي بأن تعرف أي الأمور بدأت تخرج عن المسار الصحيح وقد تُشكلّ معضلة في قادم الأيام، فالخطط توضع لكن مساراتها تتأثر بعوامل كثيرة بمرور الزمن، ولا بد من إعادة تصويبها على الدوام، لذا كانت بداية المجلس النشطة واجتماعات لجانه المتوالية منصبّة لوضع الخطط والاستراتيجيات على المحك، والتركيز على أن تُحقّق العوائد المنتظرة منها لصالح الدولتين، وعدم ترك الأمور لفترات طويلة قد تخفت فيها جذوة الحماس أو تنحرف المسارات لكثرة المتغيرات الخارجية ذات العلاقة، فالمتابعة القريبة والتركيز على المخرجات المطلوبة هي المرتكزات هنا، تماماً كما قال ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا السابق: «مهما كانت الاستراتيجية رائعة، فعليك أن تنتبه باستمرار للنتائج».
Volume 0%
المتابعة الدائمة للجان المجلس وفرق عمله الكثيرة تؤكد حقيقة أنه لا يكفي أن تبدأ بداية قوية في طريق النجاح، فاللحاق بدول النخبة يحتاج لمجهودات مضاعفة ومقاربات متنوعة، ولا بد أن تتأكد من خلال مؤشرات قياس واضحة وفعالة بأنك على الطريق الصحيح وستصل لأهدافك في الوقت المحدد وبالقدر المطلوب وبالسرعة المبتغاة، فمجرد سيرك على الطريق الصحيح لم يَعُد كافياً في عصرنا الحاضر بل لا بد أن تكون أسرع من البقية وهذا أحد المكاسب التي ستنشأ من هذه الشراكة الاستراتيجية المهمة للغاية.
إن تكامل وتضافر جهود السعودية والإمارات يمثل منعطفاً مهماً ومُلهِماً في تاريخ العرب الحديث، فالشقيقتان الكبيرتان تشكلان معاً بهذه الشراكة عملاقاً اقتصادياً تتجاوز احتياطاته النفطية ربع الاحتياطي العالمي، ويبلغ ناتجه المحلي نحو تريليون دولار، وصادراتهما التي تُقارب 750 مليار دولار تجعلهما في المرتبة الرابعة عالمياً، بينما تبلغ الواردات ما قيمته 550 مليار دولار وهو رقم يشكل ثقلاً كبيراً في عالم التجارة العالمية، فضلاً عن أن حجم التبادل التجاري غير النفطي بين البلدين يمثل ما قيمته 24 مليار دولار.
إنّ ما يميز شراكة الشقيقتين هو التركيز على المدى الزمني الطويل، فلا بحث عن مكتسبات وقتية سريعة لا تُؤسس فعلاً أرضية راسخة لمستقبلٍ مزهر، فمطر لليلةٍ واحدة لا يكفي لإخراج محصول كما تقول حكمة الهنود الحمر، البُعد الزمني غير المحدّد يوحي بثقة متبادلة غير مسبوقة وإيمان صلب بأهمية وحتمية هذه الشراكة التي ستبقى دوماً بإذن المولى سبحانه، وفوق ذلك فإنّ هذا التكامل والتعاون اللافت بين الشقيقتين أشبه ما يكون بمشكاة نور في ليل العرب لمن أراد تبصرة لوجهته وهداية عند اختلاط الأوراق وتشتّت الطرق، ومَعْلَماً لمن ابتغى رفع سقف طموحاته ودخول تنافس الكبار، فالأمور الكبيرة تحتاج فكراً أخّاذاً وفوق ذلك تحتاج شجاعة قلب لا تهزّه شراسة التحديات، تماماً كما قالها ذات يوم عرّاب الإدارة الراحل بيتر دراكر: «عندما ترى عملاً عظيماً فتأكد أنّ هناك من اتخذ قراراً جريئاً».