القارب الغارق

القارب الغارق!

القارب الغارق!

 صوت الإمارات -

القارب الغارق

عوض بن حاسوم الدرمكي
بقلم - عوض بن حاسوم الدرمكي

تذكر كتب التاريخ أن الوزير العباسي ابن الفرات مَنَح منصبَ القضاء لرجلٍ يُدعى أبو أمية الأحوص الغلابي البصري. العجيب في الأمر أنّ هذا البصري لم يكن قاضياً من قبل، بل ولم يحضر مجالس العلماء، ولم يكن له نصيب من الفقه، فقد كان الرجل بزازاً. أي تاجر حرير، ولكن كانت ميزته المهمة التي قدّمته هو أنّ ابن الفرات هرب بعد أن غضب عليه الخليفة لسوء تدبيره واختبأ عند هذا الشخص، فلما عفا عنه الخليفة وعاد للوزارة قام بتولية مَن خَبّأهُ منصب القضاء كمكافأة له!!

بالتأكيد لَمْ يُذْكَر هذا البصري إلا بالانتقاص، لأنه دخل مجالاً لا ناقة له به ولا جمل، قد يكون إنساناً رائعاً في أخلاقه ومروءته ونُبله، ولكن ذاك لا يُعفيه من كونه خِلْوَاً من العلم الذي يتطلبه ذاك المنصب الكبير، فمهما حاول ستكثر عثراته، ومهما اجتهد سيُخطئ المرامي الصحيحة لأنه لا يملك أدوات تُمكّنه منها، واللوم هنا على الاثنين: من اختاره ومَن رضي بهذا الاختيار رغم كونه بعيداً تماماً عن مجاله، فأين بيع الحرير مِن القضاء بين الناس!

أمثال ابن الفُرات كُثُر، ويتواجدون للأسف في كل زمان، لا يكترثون كثيراً لمآل الأمور ولا ينتبهون لمخاطر ما قد يجرّه تعيين غير الكفء في ظل وجود من هم أعلى كفاءة منه وبكثير، القصور في تلك النظرة لا تنتهي تَبِعاته، فما بُنِيَ على خطأ لا يمكن أن يُصبِح صحيحاً مع مرور الأيام، وإذا كان الأساس هشّاً فإنّ البنيان لاحقاً سيكون عُرضة للسقوط في أيّة لحظة، وكلما كان المنصب الذي يشغله غير الكفء عالياً كلما كان التأثير السلبي أكبر والعلاج أصعب وأكثر وجعاً!

يذكر الخبير الإداري جيم كولينز في كتابه ذائع الصيت Good To Great أنّ القائد عندما يتولى أمر مؤسسة ما فيجب عليه أولاً أن يتعامل معها وكأنها باص، باصٌ يجلس فيه السائق في المقعد الخلفي والراكب يقف خارجه ومن يُفتَرض أن يكون خارجه يمسك بمقود الباص مكان السائق.

هنا لا بُد من إعادة كل شخص إلى مكانه الطبيعي حتى يسير الباص وفق جدوله اليومي وتوقيته المطلوب، ولا يصح بالطبع أن تَكِلَ ذلك الأمر للبركة وتنادي بمن يجلس مكان السائق أن «يتوكّل على الله» وينطلق بالباص كيفما أتفق على أمل أن يجدوا لاحقاً بـ «الفهلوة» الطريقة السليمة والوجهات الصحيحة!

لا يوجد من لا يُخطئ، ومن يعمل سيخطئ لا شك، وكلما زادت كمية العمل زادت الأخطاء بالتبعية، وليس في ذلك عيب، فالخطأ جزء من التعلّم عند النُبهاء، لكن المكابرة على الخطأ هي المشكلة، فالاختيار السيئ لموظفٍ ما يستلزم المسارعة بالتصحيح فور اتّضاح خطأ ذلك الاختيار، المجاملات على حساب المؤسسة لا تصح، ومراعاة خاطر شخص لا يستطيع الوفاء بواجبات المنصب الوظيفي لا معنى لها إن كان هذا سيؤثر سلباً على أداء المؤسسة وخدماتها لعملائها، والحفاظ على «برستيج» مَن اختار الشخص الخطأ لا يجب أن يكون عُرفاً في أي مؤسسة تنشد النجاح.

في منهجيات اتخاذ القرارات هناك ما يُسمّيه المختصون بمصيدة القارب الغارق The Sunken Boat Trap، التي تعني ببساطة أنّ قراراً سيئاً نقوم باتخاذه، ثم نُكابر عليه، ولا نعود عنه، حتى لا ينظر إلينا الآخرون بأننا لسنا جديرين بذلك المنصب وتلك السلطة، الأمر الذي يدفعنا كانتصار للنفس لاختيار القرارات اللاحقة لتكون بمثابة «ترقيع» للقرار الأول الخطأ.

فتكبر المشكلة للغاية بمرور الأيام ويصبح العلاج مستعصياً، والمؤلم أكثر أنّ الموظفين سيبدؤون بفقدان الثقة بمتخذي القرار لديهم وستنتشر بالتبعية تلك الثقافة المريضة القائمة على البحث عن أي طرقٍ ملتوية للتملّص من الخطأ أو تغطيته عن الأعين!

إنّ المؤسسة التي تتسرّع ويتسرّع من بها باختيار الأشخاص الخطأ ستعاني كثيراً، ليس لأنها ستكون مضطرةً للبحث عن بديل جيّد، ولكن لأنها ستكون قد أضاعت وقتاً مهماً للإنجاز، وكلما كانت المنافسة شديدة كلما كانت عواقب الاختيار السيئ وخيمة.

وستكون فوق ذلك قد نشرت طاقة سلبية تُسمّم بيئة العمل، فالشخص الخطأ ستكون آثاره السلبية كثيرة، فهو يسيء من حيث يظن أنّه يُحسِن، ويُقرّب من يتفق مع رأيه وإنْ كان خطأ، ويُبعِد من لا يوافقه الرأي وإن كان ذاك الشخص أكثر خبرةً ودراية بمجاله، فتستشري في أنحاء المؤسسة ثقافة التملّق و«أحلام سعادتك أوامر»!

يقول صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، في جملة ملهمة رائعة: «الهدف واضح، والطريق مُمَهّد، والساعة تَدُق، لا مجال للتردّد، كثيرون يتكلمون، ونحن نُنْجِز»، والإنجاز يحتاج أن تكون جميع أدواتك الصحيحة متوفرة.

وأن يوضع كل عنصر مؤثر في مكانه المناسب حتى يُعطي فيما يبرع فيه، والتردّد في إبعاد العناصر غير المنتجة أشبه بترك نباتات غير مثمرة تشغل مساحة كبيرة من أرض مخصصة لزراعة أشجار مثمرة، والساعة تدق والوقت لا يتوقف والمتنافسون من أجل المراكز الأولى لا يتوقفون أيضاً، فإما أن تُشمّر معهم بتصويب أمورك وإمّا أن يُنهي أحلامك القارب الغارق ومصيدته!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

القارب الغارق القارب الغارق



GMT 21:31 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

كهرباء «إيلون ماسك»؟!

GMT 22:12 2024 الثلاثاء ,22 تشرين الأول / أكتوبر

لبنان على مفترق: السلام أو الحرب البديلة

GMT 00:51 2024 الأربعاء ,16 تشرين الأول / أكتوبر

مسألة مصطلحات

GMT 19:44 2024 السبت ,12 تشرين الأول / أكتوبر

هؤلاء الشيعة شركاء العدو الصهيوني في اذلال الشيعة!!

GMT 01:39 2024 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

شعوب الساحات

GMT 13:56 2019 الإثنين ,01 تموز / يوليو

تنتظرك أجواء حماسية وجيدة خلال هذا الشهر

GMT 09:22 2020 الأربعاء ,01 تموز / يوليو

أجواء إيجابية لطرح مشاريع تطوير قدراتك العملية

GMT 13:28 2019 الإثنين ,01 تموز / يوليو

تنتظرك أجواء حذرة خلال هذا الشهر

GMT 21:40 2019 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

يتحدث هذا اليوم عن بداية جديدة في حياتك المهنية

GMT 08:30 2019 الجمعة ,18 تشرين الأول / أكتوبر

طريقة تحضير بان كيك دايت شوفان سهل ومفيد

GMT 14:47 2019 الأربعاء ,19 حزيران / يونيو

فيفي عبده تردّ على منتقدي شكل حواجبها مع رامز جلال

GMT 18:22 2015 السبت ,06 حزيران / يونيو

صدور "حكومة الوفد الأخيرة 1950-1952" لنجوى إسماعيل

GMT 08:05 2015 السبت ,12 كانون الأول / ديسمبر

فلسطين ومفارقات حقوق الإنسان

GMT 08:09 2012 الجمعة ,22 حزيران / يونيو

"بيجو" تحذر من انها لن تتراجع عن اغلاق مصنع لها

GMT 15:07 2017 الإثنين ,16 تشرين الأول / أكتوبر

أردنية تُنشئ مجموعة إلكترونية لتشجيع المرأة على النجاح

GMT 19:43 2020 الجمعة ,11 أيلول / سبتمبر

زلزال بقوة 4.3 درجة يضرب جزر الكوريل في شرق روسيا

GMT 07:51 2019 الإثنين ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

الجنيه المصري يرتفع أمام الدولار بنسبة 10.3% منذ بداية 2019

GMT 14:09 2019 الإثنين ,21 تشرين الأول / أكتوبر

إليسا تعود لإحياء الحفلات في مصر وتلتقي بجمهورها

GMT 10:49 2019 الثلاثاء ,08 تشرين الأول / أكتوبر

"تويوتا" تعدل أحدث نموذج من سيارتها التي يعشقها الملايين

GMT 06:15 2019 الأحد ,14 إبريل / نيسان

هاني سلامة يفقد الذاكرة في مُسلسله الجديد
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates