المتاجرون بكسر الآخرين

المتاجرون بكسر الآخرين!

المتاجرون بكسر الآخرين!

 صوت الإمارات -

المتاجرون بكسر الآخرين

عوض بن حاسوم الدرمكي
بقلم - عوض بن حاسوم الدرمكي

ما زلت أذكر مساء ذاك اليوم بأحد الأعراس في مدينة العين وأحد كبار السن قد أخذه الحماس لصوت فرقة «الحربية» ودخل ضمن «اليوّيلة». كان المكان ممتلئاً والبعض يرمي قطع السلاح - الخالية من الذخيرة بالطبع - للأعلى كعادة هذا الفن الشعبي، خلف ذلك «الشايب» كان طفل يحاول رمي سلاحه الخشبي مقلداً الكبار، فسقطت القطعة الخشبية على رأس الشايب وسقط لضعف جسمه، حينها سارع أحد الظرفاء أصحاب المقالب بقطعة موز وعجنها سريعاً في يده ووضعها على رأس الشايب وهو يصرخ: «لحقوا عليه مخّه طلع»، لحظات وإذا بالشايب يصيح كالملدوغ وقد صدّق فعلاً أنّ العجين الأبيض الذي في يد الرجل كان مخّه!

طبعاً أخذ الموقف وقتاً حتى تم إقناع الشايب أن ذلك عجين موز لا أكثر.

ما يدعوني لذكر هذه القصة، ذلك الانفلات غير المعقول في ما بات يعرف بصناعة مساعدة الذات Self-Help Industry التي غزت بلداننا العربية بعد أن استطاعت أن تفعل الأفاعيل في بلاد الغرب، وتحديداً في الولايات المتحدة الأميركية، وفعلها في «الغالب»، حتى لا ندخل في تعميم خاطئ، يقوم على نفس مبدأ إيهام ذلك الشايب أنّ ما يراه هو عجين دماغه، وأنه يشعر فعلاً بألم كسر جمجمته!

هذه النزعة التي تقوم على التبرع بتجهيز حلول لمشكلات نفسية وروحية في المقام الأول، ثم بيعها على أولئك الذين يسقطون، إما بالإقناع أو لحبّهم لتقليد غيرهم، في حبائل هؤلاء والذين لا نظلم أكثرهم حقهم من التأهيل، لكنّه تأهيل يخالف التوجّه، فالتوجّه يقوم على ضرورة اختلاق عيب أو أكثر في شخصية «كل» إنسان يستطيعون الوصول إليه، ثم تقديم علاجات سريعة عبارة عن كتب أو تسجيلات أو جلسات علاجية أو دورات تدريبية يصفق لها بعض المدفوع لهم مسبقاً، أو المغرّر بهم من السُّذَّج الذين يقضون طيلة حياتهم بين هذه الكتب وتوابعها ولا يستطيعون منها فكاكاً حتى يمر بهم ملك الموت!

 

هذه الصناعة، أو التجارة بالأصح، بلغت عائداتها لأصحابها من بائعي الوهم و«عاجني الموز» عام 2008 أكثر من عشرة مليارات من الدولارات في أميركا لوحدها، وبنمو سنوي بلغ 6%، بإمكانكم القيام بالحسبة لتعرفوا عائداتها بعد عشر سنوات من ذاك التاريخ، لكن رغم ذلك العدد الهائل من الكتب والأسطوانات إلا أنّ الأرقام الموجعة بين الناس تتزايد، فهذه «الأكذوبة» لم تنجح في علاج أكثر من 40 مليوناً يعانون من القلق، و15 مليوناً يعانون من الكآبة، و7.7 ملايين يعانون من اضطرابات ما بعد علاجات الأمراض الصعبة، بل إنّ الأميركان أنفقوا عام 2016 على علاجات الكآبة والقلق والاضطرابات النفسية قرابة 446 مليار دولار، وهو ما يمثل نصف الإنفاق العالمي، فلماذا لم تظهر آثار كتب وفيديوهات مساعدة الذات؟

لم تظهر لأنها ببساطة أشبه بالأمراض السرطانية التي يزيد انتشارها بإضعاف الجسم أكثر وتدمير خلاياه وجهازه المناعي بالتدريج، دون وجود هذه الصعوبات أو الاضطرابات النفسية فلا وجود ولا حاجة لبضاعتهم، لذا لا بد من اختلاقها من العدم ومن الضرورة بمكان أن يتم اللعب على مفهوم المخالفة بطريقة غير مباشرة، كيف ذلك؟ لا تستطيع أن تقول لشخص قميصك الأبيض غير جميل لأنه سينتقل لموقف الدفاع عن النفس باستماتة، لذا فالأصوب أن تقول له إنّ اللون الأزرق هو آخر النزعات الراقية في عالم الموضة، حينها سيقوم من تلقاء نفسه بتغيير قميصه الأبيض لأنه يخجل من شيء لا يعتبر من ضمن المرغوب مجتمعياً، كذلك الحال في تجارة مساعدة الذات، لا بد أن يتم الإكثار من الكتب التي تكون عناوينها «طريقك للسعادة»، و«17 طريقة مؤكدة لتكون سعيداً»، و«السعادة من هنا»، فبهذه الطريقة تترسّخ دون أن يشعر في نفس الإنسان أنّه غير سعيد!

الأرقام تؤكد أنّ من يشتري كتب مساعدة الذات يعود لشراء الأجزاء اللاحقة كلما صدرت، لأنه يسقط ضحية تلك الكلمات المعسولة ويقتنع أنّ وسيلته الوحيدة للخروج من كآبته أو إخفاقاته أو عدم تماسكه النفسي هو بشراء هذه المنتجات، هو بحثٌ محموم للوصول لعلاجات سريعة Quick Fixes بدفع المزيد من الأموال لأصحاب هذه المنتجات والذين يتفنّنون في كسر دواخل الناس أكثر دون أن يشعروا ليروّجوا بينهم بضاعتهم، دون هذا الشيء لن تكون تجارتهم مربحة، هل وصلت الفكرة؟

الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان، وهذه الخصلات التي بإمكانها مساعدته للخروج من أزماته وتحدي الصعوبات التي تواجهه موجودة فيه، إن لم يستخدمها فسيفقدها وسينتهز الفرص مروّجو الوهم ليحصلوا على ما في جيبه، كل نجاح يحتاج جهوداً كبيرة، وكل فارقٍ كبير لا يمكن أن يحصل لمن يبحث عن العلاجات السريعة. تقول ليندسي ماير خبيرة العلاج النفسي وهي تثور في مقال لها لكشف طريق الدجل الذي وصلت له صناعة مساعدة الذات بأنّ أقل من 20% من هذه الكتب تستند في فرضياتها على نتائج أبحاث مؤسسات محترمة، بينما الغالبية تعتمد على الآراء الشخصية لا أكثر، الأمر الذي يجعلها متهالكة الطرح لا تستند لاختبارات حقيقية معتمدة!

أعلم بأنّ هذا المقال لن يعجب الغارقين في هذه الكتب، أحدهم «صدّعني» بقانون الجذب وأنّ ما تفكّر به دوماً هو ما سيجعل «طاقة الكون» تأتي به إليك، قلت له لن تجد أحداً يفكّر بالطعام مثل الجائعين في أفريقيا ولن يفكّر بالمال مثل فقراء بورما وبوركينا فاسو، ولن تجد أحداً يفكّر بالأمن مثل أطفال سوريا، ولكن ذلك لم ينفعهم بشيء، لا شيء يأتي دون تخطيط وتنفيذ وصبر وجهدٍ كبير، ما عدا ذلك لا يعدو أن يكون كذباً على النفس وتصديقاً بوجود مصباح علاء الدين الذي يحقق لك ما تريد، مصباح هذا الزمن هو منتجات مساعدة الذات، والأمر لك، إمّا أن تجتهد لتحقق ما تريد وتتجاوز مصاعبك وإمّا أن تصرخ مصدقاً أنّ عجينة الموز هي دماغك الذي خرج بلعبة طفلٍ خشبية!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

المتاجرون بكسر الآخرين المتاجرون بكسر الآخرين



GMT 21:31 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

كهرباء «إيلون ماسك»؟!

GMT 22:12 2024 الثلاثاء ,22 تشرين الأول / أكتوبر

لبنان على مفترق: السلام أو الحرب البديلة

GMT 00:51 2024 الأربعاء ,16 تشرين الأول / أكتوبر

مسألة مصطلحات

GMT 19:44 2024 السبت ,12 تشرين الأول / أكتوبر

هؤلاء الشيعة شركاء العدو الصهيوني في اذلال الشيعة!!

GMT 01:39 2024 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

شعوب الساحات

GMT 13:56 2019 الإثنين ,01 تموز / يوليو

تنتظرك أجواء حماسية وجيدة خلال هذا الشهر

GMT 09:22 2020 الأربعاء ,01 تموز / يوليو

أجواء إيجابية لطرح مشاريع تطوير قدراتك العملية

GMT 13:28 2019 الإثنين ,01 تموز / يوليو

تنتظرك أجواء حذرة خلال هذا الشهر

GMT 21:40 2019 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

يتحدث هذا اليوم عن بداية جديدة في حياتك المهنية

GMT 08:30 2019 الجمعة ,18 تشرين الأول / أكتوبر

طريقة تحضير بان كيك دايت شوفان سهل ومفيد

GMT 14:47 2019 الأربعاء ,19 حزيران / يونيو

فيفي عبده تردّ على منتقدي شكل حواجبها مع رامز جلال

GMT 18:22 2015 السبت ,06 حزيران / يونيو

صدور "حكومة الوفد الأخيرة 1950-1952" لنجوى إسماعيل

GMT 08:05 2015 السبت ,12 كانون الأول / ديسمبر

فلسطين ومفارقات حقوق الإنسان

GMT 08:09 2012 الجمعة ,22 حزيران / يونيو

"بيجو" تحذر من انها لن تتراجع عن اغلاق مصنع لها

GMT 15:07 2017 الإثنين ,16 تشرين الأول / أكتوبر

أردنية تُنشئ مجموعة إلكترونية لتشجيع المرأة على النجاح

GMT 19:43 2020 الجمعة ,11 أيلول / سبتمبر

زلزال بقوة 4.3 درجة يضرب جزر الكوريل في شرق روسيا

GMT 07:51 2019 الإثنين ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

الجنيه المصري يرتفع أمام الدولار بنسبة 10.3% منذ بداية 2019

GMT 14:09 2019 الإثنين ,21 تشرين الأول / أكتوبر

إليسا تعود لإحياء الحفلات في مصر وتلتقي بجمهورها

GMT 10:49 2019 الثلاثاء ,08 تشرين الأول / أكتوبر

"تويوتا" تعدل أحدث نموذج من سيارتها التي يعشقها الملايين

GMT 06:15 2019 الأحد ,14 إبريل / نيسان

هاني سلامة يفقد الذاكرة في مُسلسله الجديد
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates