بقلم - عوض بن حاسوم الدرمكي
وقف المدير الجديد الذي قامت الشركة بتعيينه لكي يرفع من قيمتها التنافسية ويطوّر أعمالها في نهاية الممر وهو يرى أحدهم متكئاً على طرف الباب ويراقب زملاءه الموظفين، فاقترب منه وقد أراد أن يستعرض أمام الجميع مهاراته القيادية والتي من أجلها تم تعيينه وسأل ذلك الشاب: «كم تأخذ أجراً كل يوم ؟»، فرد الشاب: «مائة دولار»، كان الجميع في تلك القاعة الكبيرة يراقب ذلك الحوار عندما أخرج المدير محفظته وسحب ورقتي مائة دولار وسلّمهما للشاب وهو يقول بصوت حازم يسمعه الجميع:«لا أريد أن أراك هنا بعد اليوم» !
عمّ الصمت المكان والشاب يرحل سريعاً والمدير يعيد التأكيد للجميع بأنّ هذا ما سيحدث لكل من يتقاعس عن العمل ويكتفي بالمراقبة بينما زملاؤه يؤدون مهامهم، أراد أن تصل لهم رسالة مفادها أنّ ما تعودوا عليه لن يكون مقبولاً في عهده، بعد دقائق كان أحد الموظفين يقترب من المدير بخطوات حذرة ثم يقول له: «سيدي، لقد قمتَ بطرد عامل توصيل البيتزا».
المؤسسات حتى الناجحة منها تحتاج لتغيير الدماء بين فترة وأخرى لدوام التحسين وضخ طاقة ذهنية ونفسية جديدة لها، لكن هذا لا يعني أن يكون ذلك التجديد بأشخاص يأتون من الخارج مهما كانوا ناجحين في أماكنهم الأصلية، فآخر ما تريده أن تجد مديراً يُقيل عامل توصيل بيتزا لا يعمل لديه أصلاً، فمن هم بداخل المؤسسة وعايشوها وعايشتهم بدورها وعرفوا خباياها وتشبعوا بثقافتها الخاصة وعاصروا نجاحاتها ولماذا نجحت ورافقوها في عثراتها ولماذا تعثرت وأخفقت، هم أقدر من غيرهم على مساعدتها على النمو والتطوّر بدلاً من شخصٍ يأتي من الخارج بفكرٍ مختلف وفرضيات متباينة ويبدأ في سلسلة طويلة من التجارب التي لا تزيد الوضع إلا سوءاً
عندما خرج جاك ويلش الرئيس التنفيذي الأسطوري لشركة جنرال إليكتريك للتقاعد كان قد رشّح ثلاثة كلهم من داخل الشركة لقيادتها بعده: جيف إيميلت وبوب نارديللي وجيم ماكنيرني، ووقع الخيار على الأول وفعلاً شهدت الشركة في عهده مزيداً من التألق لأنه ببساطة كفاءة «مِن داخلها»، بينما رحل نارديللي إلى شركة Home Depot كرئيس تنفيذي لها وأخفق اخفاقاً مدوياً، ورحل ماكنيرني إلى شركة 3M كرئيس لها وفشل أيضاً قبل أن يحزم حقائبه لشركة Boeing والتي حقق بها بعض النجاحات لكنه ترك فيها مشاكل جمّة عند تقاعده منها، على مسارٍ موازٍ أيضاً أتت شركة Apple بجون سكولي من شركة Pepsi Cola والتي كان يرأسها وحقق نجاحاً بها ليكون رئيساً تنفيذياً لشركة أبل فساهم بطرد مؤسسها ستيف جوبز ثم تلت ذلك سنوات عجاف وصلت بها الشركة إلى حافة الإفلاس قبل أن يعود «ابنها» جوبز وينقذها !
هناك ما يُعرَف بميزة ابن المؤسسة The Insider’s Advantage والتي تجعله في أغلب الأحيان على مسافة متقدمة من أي شخصٍ يأتي من الخارج وهولا يحمل عنها أي فكرة ولكنه يأتي بأفكار ونماذج عمل وقوالب جاهزة جرّبها في مكان آخر ونجحت، لكن لا يوجد أي دليل على تأكد نجاحها في هذه المؤسسة المختلفة، ماكنيرني ونارديللي وسكولي كانوا رائعين في مؤسساتهم التي نشأوا فيها وعرفوا كل تفاصيلها وتنفّسوا ثقافتها وخَبَروا بيئتها المميزةِ لها، لكنهم ما إن خرجوا لكيانات مختلفة حتى فشلوا، وسيفشل أمثالهم كثيرون لذات السبب، نحن لا نحتاج إعادة اختراع العجلة، الوقت أهم من أن يتم إضاعته في تجارب مفضولة لا فاضلة.
المؤسسات على الدوام تملك كفاءات رائعة تحتاج لمجرد فرصة لتثبت أنها على قدر الرهان، وعندما نرى قيادتنا الرائعة ترفع سقف التوقعات عالياً جداً من أبنائها وتراهن على مزاحمتهم لنُخبة النخبة في سباق التقنيات الدقيقة والذكاء الاصطناعي والأقمار الصناعية والسباق نحو سُكنى وإعمار الكوكب الأحمر، نرى البعض دون سبب لا يُحاكي هذه التوجهات السامية ولا يسير في ركابها ونجده «يُطوّف» الفرص على الكفاءات المواطنة لمهام اعتيادية وليست مناصب لاختراع القنبلة النيوترونية أو ما شاكلها، ويزف الخبر علناً وكأنّه ينتظر تصفيقنا على عدم منح ذاك المنصب أو تلك المهمة لأحد أبناء وبنات هذا الوطن والذي يعج بالكفاءات العالية التي أفنت الحكومة في تأهيلها سنين عديدة ولم تبخل عليها بالجهد والإنفاق لأنها كانت تنتظر إزهارها وأن تساهم في حمل الراية
لا نحمل ضِغناً على أحد وإخواننا من غير المواطنين يعيشون بيننا ويعملون معنا في سبيل استمرار نهضة هذا الوطن، لكن عندما يكون التفاضل لمنصب قيادي فالأولى أن يكون لكفاءة من أبناء البلد وليس في ذلك إجحافٌ لأحد، بل الإجحاف ألا يتم هذا الشيء وأن تذهب الفرصة بعيداً
إنّ نمو القيادات لن يتحقق إنْ لم يتم منح فرص كافية للشباب المواطن، ومالم يتم وضعهم على المحك الحقيقي وإدخالهم في أتون مناصب قيادية وإلا ستبقى تلك الكفاءات مُحجّمة للغاية، هنا لا بد من استحضار كلمات صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان حفظه الله تعالى والتي يعيد تأكيدها في كل مناسبة بأنّ دور هذا الجيل أن يسلّم الراية للجيل الجديد، هنا من المهم أن نعلم جيداً أن تسليم الراية لا يعني أن تُسلّم لشخصٍ بعيدٍ عنّا حتى في توجهه الفكري والتي تشهد عليها آثاره في منصات التواصل الإجتماعي.
نهجنا الذي نقبله هو نهج قيادتنا، ومسارنا الذي لا نحيد عنه هو مسار الحكومة وسعيها الحثيث لتمكين أبناء البلد ودعمهم بما تستطيع للمضي قُدُماً في سباق التنافس مع كبار الدنيا، غير ذلك فهو اجتهادٌ غير مقبول ولا يتناغم ونهج الدولة، أختم بمثلٍ ألماني قديم يقول: «ما فائدة أن تركض إن كنتَ تسير في الإتجاه الخطأ» !