بقلم - عوض بن حاسوم الدرمكي
وَجَد رجلٌ أعرابياً عند بئر ماء وهو يستقي على بعيرٍ له، ولاحظ الرجل أنّ هناك حملاً غريباً على الطرف الآخر للبعير، بينما كان خُرْجٌ فيه مؤونته مشدوداً على الطرف الأول مما أثقله جداً، فسأله عمّا يحمل على ظهر بعيره حتى كاد أن ينوء به، وكم كانت صدمة الرجل والأعرابي يخبره أن الخُرج الآخر فيه تُراب فقط لكي يتوازن الحِمْل، فقال له: «ولماذا لا تستغني عن التراب وتُقسِّم مؤونتك على خُرجين؟»، فهزّ الأعرابي رأسه موافقاً على الفكرة الجيدة، ثم سأل الرجل: «أكبير قومٍ أنت أم حكيمهم؟»، فرد عليه: «أنا من عامة الناس»، حينها غضب الأعرابي وقال: «قبّحك الله، لا هذا ولا ذاك وتُشير عليّ!»، ثم ترك التراب على البعير وابتعد راحلاً.
البعض يتكبّر على النصيحة لأنه يرى نفسه أعلى مقاماً من الناصِح، ويرفض التوجيه لأنه يظن نفسه قد امتلك من المعرفة، ما يجعله يرفض التوجيه ممن يراه لا زال منطوياً في أردية الموروث الآفل كما يصفه، وليس هذا بأمر جديد، فمن مرّ على آي القرآن الكريم سيجد توثيقاً للعديد من أولئك الناكصين على أعقابهم عند سماع النصح، والرافضين الغاضبين لمن ذكّرهم بخطأ مسارهم، وضرورة أوبتهم قبل أن يحلّ عليهم غضب الله تعالى، فكابروا وأُركِسوا بالعذاب ﴿فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ﴾.
مرّت سنة وبدأنا في تاليتها والوباء لا زال يشتد ويتّسع نطاقه ويتحوّر وتخرج لنا تحذيرات بأوبئة قادمة بمعدلات فتكٍ أعلى، أوبئة كفيروس «نيباه» الذي صارحتنا منظمة الصحة العالمية أنْ لا علاج له حالياً، وكل الأمل ألا ينتشر خارج البلد الذي هو فيه، وهو أمرٌ لا يبدو عملياً لما نراه من سرعة انتقال البشر وما يحملونه معهم.
رغم إنتاج اللقاحات وبدء أخذها، إلا أنّ الوباء عاد بموجةٍ جديدة، وسقطت آلاف جديدة من الضحايا، وعادت العديد من الدول لإغلاق حدودها وفرض الحظر على الحركة بداخلها، وأصبحنا نعيش في دائرة مغلقة لا نكاد نخرج منها، ربما لأننا أغفلنا أهم عنصر للخروج منها إلا وهو: اللجوء لله تعالى.
هل تناست البشرية وعرابوها أنّ للكون خالقاً مُصرِّفاً لا يغيب عنه أمر، ولا يحدث إلا بسبب يعلمه ويقدره ولا يزول إلا بمثله؟ هل نظن فعلاً أنّ بمقدورنا تسيير أمورنا دون مشيئته ورحمته ولطفه؟ هل أصبحنا متكبرين حتى على الله سبحانه؟ لماذا يسخر البعض عندما يُقال أنّ ما يجري ربما يكون تحذيراً للبشرية من خالقها، لأنها أضاعت الطريق كثيراً؟
سخّر الله سبحانه للإنسان كل شيء على هذه الدنيا من أراض وموارد ومناخ وكائنات، فإنْ تنكّب الطريق ولجّ في طغيانه جعلها سبباً لنقمته وأصلاً في استئصاله، فالريح الطيبة التي تملأ رئتيه بالهواء النقي هي ما يحولها المولى لإعصار يمحق كل ما هو أمامه، والمطر الذي يسقي الزرع ويمد الأنهار هو ما يتحول لعقوبة تحمل معها الفيضانات والدمار والموت والتشريد، والحيوان الذي سُخّر للإنسان مَرْكَباً ومأكلاً وأداةً هو ما قد يأتي منه خطر الأوبئة المميتة، وقِسْ على ذلك ما تشاء.
في ظل هذا الوباء الذي حل بالعالم فجعل سافله عاليه ونغّص على الناس معايشهم، وفي وقت نحتاج فيه للتصالح مع الله تعالى، والتذلل له والمبادرة بالأعمال الخيرة التي أتى بها الوحي وتُقرّها «الفطرة» السليمة، نجد عوضاً عنها استماتة من دول كبرى كثيرة لعمل كل ما من شأنه أن يزيد نقمة الخالق القاهر على المخلوق الضعيف المغتر بنفسه، من تشريعٍ للشذوذ وتسويغ للانحرافات وتلاعب بالقيم وسعي حثيث لتمييع الأديان وتأليه المال والربح لا غير، وكأن هؤلاء لا يعترفون بوجود إله أصلاً، وكأنهم لا يرون سوى الإنسان في هذا الكون ليفعل ما يشاء ولا يخشى أحداً ما دام يملك القوة والطموح والمعرفة و«النزوة».
إنّ ما تعرفه البشرية لا يعدو قطرة في بحر ما تجهله، وما تملكه من قوة لم يجعلها يوماً قادرة على وقف إعصار أو رد فيضان، وما تدعيه من سطوة أذلّه فيروس ضئيل ليذكّرها بمدى ضآلتها أمام قدرة الخالق سبحانه، فالأدوية وحدها دون حفظ الله ومعونته لن ترفع وباء، وكذلك الأدعية وحدها دون بذل أسباب وبحث عن علاج لن تجدي نفعاً في الغالب، وما دامت العلاجات قد خرج بعضها فإنّ شفاء الأرض منوطٌ بأوبة أهلها لربّهم علّه يرحمهم، فربما تملك البشرية آخر فرصة قبل أن يأتي ما أتى الأمم العديدة قبلها ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ﴾.