بطر الحق

بطر الحق

بطر الحق

 صوت الإمارات -

بطر الحق

عوض بن حاسوم الدرمكي
بقلم - عوض بن حاسوم الدرمكي

مما كان يستوقفني كثيراً من الأحاديث الشريفة قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنّة مَن كان في قلبه مثقال ذَرَّةٍ مِن كِبْر» وعِظَم العقوبة على أمرٍ قد يبدو أنه ليس بتلك الفداحة في الخطر كنتُ أقف أمامه حائراً وباحثاً عمّا وراء المعنى الذي يسبق للذهن، وهو استغراب لِقِصَر فهمي وليس رفضاً معاذ الله لكلام الصادق المصدوق، ذلك الاستغراب بقي رغم تكملة الحديث والتي قال فيها أحد الصحابة متسائلاً: «إنّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أن يكون ثوبُه حسناً ونَعْلُهُ حسنة؟» فكان رد سيد الخلق صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللَه جميل يحبُّ الجمال، الكبر: بطر الحقِّ وغمط النَّاس»، التوضيح النبوي لم أستوعبه بما فيه الكفاية، ولم أعرف كيف يمكن للمتكبّر المزهو بنفسه وثيابه وحاله أن يظلم الناس أو يهضم حقوقهم وأن يردّ الحق إنْ ظَهَرَ أنّه على خلافه، لم أكن أرى قضية «بطر الحق وغمط الناس» بمفهومها الجلي وأثرها الخطير حتى غرقتُ مع غيري في العمل في المؤسسات وأخذتنا المشاغل والمهام ولجان العمل شرقاً وغرباً، فبدأتُ أتلمس تلك الحكمة العظيمة التي كنت أمرُّ عليها ولا يربطها ذهني إلا بمن يمشي خيلاء أو يتحدث من «طرف خشمه»!

من مصائد اتخاذ القرار التي ذكرها الأستاذان جون هاموند ورالف كيني والتي تُوَرِّط المؤسسات وقد تتسبّب بانهيارها أو تراجعها على الأقل ما يُسمّى مصيدة القارب الغارق، والتي تعني ببساطة أن يتخذ شخصٌ مسؤولٌ بمؤسسةٍ ما قراراً خاطئاً أو مرجوحاً بقرارات أفضل منه، ثم يتّضح ذلك الخطأ بمرور الأيام وظهور نتائج مخالفة للتوقعات أو ما كانت ترتجيه تلك المؤسسة، حينها يكون الأمر الطبيعي هو التراجع عن ذلك القرار السيئ، كما تذكر تلك المقولة القديمة بأنّك إذا وجدتَ نفسك تحفر في المكان الخطأ فأول شيء تعمله هو أن تتوقّف عن الحفر!

الغريب ووفقاً لنظرية القارب الغارق أنّ المسؤول إنْ كان هش الشخصية ويخشى أن يبدو ضعيفاً أو قليل معرفة أو قاصر رؤية أمام موظفيه إنْ تراجع عن قراره الخاطئ فإنّه يُكابِر ويعمد إلى طريقة حل سيئة للغاية، بمقتضاها يواصل البحث عن خيارات أخرى «تُرَقِّع» قراره الأول الخاطئ، وبدلاً من إصلاح الخلل سريعاً فإنّ المؤسسة تدخل في نفق مظلم أُحادي الاتجاه مليء بالقرارات الترقيعية، هذه القرارات تكون ذات أثر سيئ متوسط إن كان صاحبها في مستوى وظيفي منخفض أو متوسط، ولكنها تكون كارثية إنْ كان ذلك الشخص «المُكابِر» يعتلي هرم تلك المؤسسة.

«الكبر بَطَر الحق وغَمْط الناس»، فالمتكبر هنا يُقدّم «برستيجه» وكيف يُمكن أن ينظر له الآخرون على صالح المؤسسة، وبالتالي صالح مَن بها ومَن يستفيد من خدماتها، فتترنّح المؤسسة بهذه القرارات السيئة وتسقط سريعاً، فإنْ كانت مؤسسة خاصة أفلست وانقطع مصدر رزق كل من يعمل بها وأصبحت عائلاتهم ومستقبلهم في مهب الريح، وإنْ كانت مؤسسة عامة تردَّت خدماتها للمجتمع المحلي وتأثرت بالتالي سُمعة المدينة وانخفضت جاذبيتها لرؤوس الأموال التي تبحث دوماً عن بيئة متكاملة القوانين، والبُنى التحتية، والخدمات ذات الجودة العالية وتوقيت الإنجاز المناسب، وفوق ذلك التنفيذيين ذوي الرؤى الصائبة والاستراتيجيات المرنة التي تتكيّف سريعاً مع المتغيرات حولها.

أحياناً يكون المدير جيداً لكنه يُخطئ في اختيار موظف لمنصب مُعيّن، ثم يسقط في شَرَك مصيدة القارب الغارق، ويبدأ في الدفاع عن ذلك الموظف والاستماتة في إعطائه عشرات الفرص، والتي لا يستطيع اقتناصها لأنّ قُدراته أقل بكثير من المطلوب بينما لا يُعطي فرصة يتيمة لكفاءات أخرى لكنها «لا تنزل له مِن زور»، هنا يكون الخلل في طرفين معاً، وهو أمر يُنذر بـ«تسميم» بيئة العمل الداخلية، وتدفع الموظفين الجيدين للهرب من تلك المؤسسة قبل أن تغرق فعلاً، فحسب الدراسات التي قامت بها شركة HRSN فإنّ قرابة 80% من قرارات الموظفين بترك وظائفهم هي بسبب موظف آخر سيئ، وفي مسح قامت به مؤسسة روبرت هالف الاستشارية ذائعة الصيت ونشرته مجلة Entrepreneur أكَّدَ قادة المؤسسات قيد المسح أنّ للموظفين «الخطأ» تأثيراً سلبياً على بيئة العمل يصل لنسبة 95% من وقت العمل، بينما في دراسة مسحية أخرى فقد اتفق قرابة 60% من مسؤولي المؤسسات أنّ الموظفين «الخطأ» لا يمكن بحال أن يعملوا بتوافقية مع بقية زملائهم!

إنّ الخطأ البيّن لا يمكن تلميعه للأبد، والحلول الترقيعية لا تستطيع أن تجعل السواد بياضاً، فالأرقام لا تكذب والحقائق لن تخفى لفترة طويلة، والشخص الذي يحمل «كِبْراً» في داخله سيكون وبالاً على كل مكان يُشرِف عليه أو يعمل به، لأنه سيبطر الحقّ ويرفضه إنْ لم يأتِ حسب هواه، وسيغمط الناس ويظلمهم دون تأنيب ضمير لأنه لا يرى إلا رأيه ولا يهتم إلا بصالحه، وما لم يُؤخذ على يده سريعاً فإنّ ثمن التساهل معه سيكون باهظاً، ولئن صَدَقَت مقولة «ما يصحّ إلا الصحيح» فإنّ الصحيح قد يصح ويُعرَف بعد غرق القارب!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

بطر الحق بطر الحق



GMT 21:31 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

كهرباء «إيلون ماسك»؟!

GMT 22:12 2024 الثلاثاء ,22 تشرين الأول / أكتوبر

لبنان على مفترق: السلام أو الحرب البديلة

GMT 00:51 2024 الأربعاء ,16 تشرين الأول / أكتوبر

مسألة مصطلحات

GMT 19:44 2024 السبت ,12 تشرين الأول / أكتوبر

هؤلاء الشيعة شركاء العدو الصهيوني في اذلال الشيعة!!

GMT 01:39 2024 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

شعوب الساحات

GMT 10:18 2016 الخميس ,13 تشرين الأول / أكتوبر

كارينا كابور في إطلالة رشيقة مع أختها أثناء حملها

GMT 15:51 2019 الإثنين ,13 أيار / مايو

حاكم الشارقة يستقبل المهنئين بالشهر الفضيل

GMT 15:56 2018 الجمعة ,27 إبريل / نيسان

"الديكورات الكلاسيكية" تميز منزل تايلور سويفت

GMT 12:03 2019 الإثنين ,21 تشرين الأول / أكتوبر

قيس الشيخ نجيب ينجو وعائلته من الحرائق في سورية

GMT 11:35 2019 الخميس ,09 أيار / مايو

أمل كلوني تدعم زوجها بفستان بـ8.300 دولار

GMT 08:09 2019 الأربعاء ,09 كانون الثاني / يناير

محمد صلاح يُثني على النجم أبو تريكة ويعتبره نجم كل العصور

GMT 19:44 2018 الثلاثاء ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

"شانيل" تبتكرُ قلادة لؤلؤية بطول 60 قدمًا

GMT 16:32 2018 الجمعة ,28 أيلول / سبتمبر

كنيسة قديمة تتحول إلى منزل فاخر في جورجيا

GMT 16:59 2018 الثلاثاء ,10 تموز / يوليو

جاكوبس تروي تفاصيل "The Restory" لإصلاح الأحذية

GMT 17:32 2013 الإثنين ,02 كانون الأول / ديسمبر

مقتل صاحب إذاعة موسيقية خاصة بالرصاص في طرابلس
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates