بقلم - عوض بن حاسوم الدرمكي
خرج أحدهم من منزله في الصباح الباكر والضباب يُغطي كل شيء، ولأنه لم يستطع رؤية الطريق جيداً فقد اكتفى باقتفاء سيارة أخرى أمامه لتأكده أن صاحبها موظف مثله ويريد وسط المدينة أيضاً، لم تمر إلا دقائق وإذا بالسيارة التي أمامه تتوقف فجأة فيصدمها بعنف من الخلف، ونزل غاضباً وهو يعاتب صاحب السيارة الأولى لعدم إشعال إشارات التنبيه قبل التوقف المفاجئ.
فرد عليه الآخر بصوت مندهش: «ولماذا أُشعِل إشارات التنبيه وأنا أتوقف في كراج منزلي»!هذه القصة الطريفة أبسط ما يمكن التمثيل به على سوء مآل القدوات المغلوطة، وأنّ اقتفاء أي شخصٍ أمامك قد يعود عليك بعواقب وخيمة لن تكتشفها إلا في المستقبل.
هنا طبعاً لا أقول إن الشخص لا بد أن يكون منعزلاً عن الدنيا أو متخذاً مساراً يختلف عن الجميع، المجتمعات لا تقوم على التنافر، ونسيجها الداخلي لا يتماسَك بالتباين التام بين أفرادها، بل لا بد من تناغم وتكامل، وانسيابية سلوك ينشأ من منظومة فكرية وعقدية وأخلاقية متماثلة، هذه الانسيابية لا تتأتى دون وجود مصادر واضحة تُستقَى منه وأفراد يُمثّلون النماذج المثالية لها، والتي من الضروري التأسي بها.
إنّ الحاجة لوجود قدوات ومُثُل عليا ليس أمراً ثانوياً، مهما حاول البعض الضرب على وتر الاستقلالية ورفض الوصاية، كما يحلو لهم أن يكرروها دوماً، فهي مهمة حتى نستطيع وضع مقاييس للمدى الذي يجب أن نصل إليه لكي نكون مواطنين أكفاء نستحق أن نحمل هوية الوطن وعقيدته واسمه، وهي مهمة أيضاً لنعرف قَدْر الجهد الذي يجب أن نبذله لكي نطوّر به أنفسنا ونُنَقِّي به أرواحنا عندما نُقارن أنفسنا بتلك القدوات.
حتى لا يظن البعض أنني أُضيّق واسعاً، فإنني أرى ستيف جوبز وبيل غيتس وهنري فورد وجيف بيزوس وأمثالهم قدوات في مجال النجاح «المهني»، فلكل منهم قصة ملهمة في كيفية تغيير موازين اللعبة في عالم الأعمال وتحقيق نجاحات باهرة أصبحت مضرب مثل كل من يتكلم عن التفوق، ودراسة حياتهم وأساليبهم القيادية ضرورة لنختصر على أنفسنا طريق التعلّم، هنا هم قدوات مهنياً وليس في كل شيء حتى لا نخلط الأوراق.
ليست القدوات للتقديس أو للتطبيل لها، بل المطلوب وضع سيرتها بتفاصيلها على طاولة التحليل، فنتعلم مِن أي معين نهلوا هذه العلوم النافعة ومن أي مورد أخذوا هذه السلوكيات والأخلاق الرفيعة، أن نبحث عميقاً عن كيفية نجاحهم وماذا واجهوا من صعاب وكيف استطاعوا تجاوزها، أن نهتم بدراسة حياة الناجحين الأذكياء، ونضم لها «لِزاماً» قصص الناجحين الأذكياء، فذكاء العقل دون ذكاء الروح وطهارتها لا يعود غالباً بالخير على الإنسان وعلى مَن حوله
حالياً، يحار العاقل وهو يرى كل شيء تقريباً أصبح يضرب في ضمائر الصغار وعقولهم اللا واعي، فلا تكاد تجد أحداً من أطفالنا يعلم شيئاً عن أعلام أُمته بل إن بعضهم لا يعرف من هو أبوبكر الصديق، بينما التلفاز وألعاب الحاسب والأجهزة المحمولة تسوّق له شخصيات كرتونية ليتعلّق بها ويُعلق صورها في غرفته، فاجأني صغير في بدايات المراهقة وهو يقول إن قدوته شخصية كرتونية نصفها إنسان ونصفها الآخر شيطان Demon، نقّل نظرك وانظر وأطفالنا قد أصبح بعضهم يلبس القمصان، ومن لم يلبسها في البلد لبسها في السفر، على كثير من هذه القمصان توجد كتابات صادمة ومَن يظنها من أجل الطرفة فقط، فهو جاهل أو«بارد يوف»، بل هي رسائل يتشرّبها العقل الباطن للصغير مع الوقت، وهو يحمل قميصاً مكتوب عليه «الثائر الصغير» Little Rebel أو «المشكلجي» TroubleMaker والمؤدب منهم سيلبس ثالثاً مكتوب عليه «يوم سيئ في التزحلق أفضل من يوم جيد في المدرسة»!
إن سلخ الناشئة والشباب عن دينهم وطمس هويتهم لا يمكن أن يحدث ما لم يتم نسف كل القدوات والشخصيات العظيمة في تاريخنا واستبدالها بقدوات مُحبِطة أو مُدمّرة سواء كرتونية أو حقيقية من التافهين والمغنين والراقصات، ففي حياة البشر وتكويناتهم لا يمكن أن يبقى فراغ للأبد، بل سيتمدّد به شيء آخر لا محالة، فإن غاب الإيمان تمدّد الإلحاد، وإن غابت الأخلاق تمدّدت الوقاحة والنرجسية والميكافيلية والشهوانية، وكذلك إن غابت القدوات الحسنة تتمدّد الشخصيات السيئة والقدوات المغلوطة.
الملاحظ حالياً اشتداد وتيرة مهاجمة علماء الإسلام والافتئات عليهم بما ليس فيهم، والبحث عن أي فتوى شاذة أو رأي غريب لأي شخص يحاول الانتساب لعلوم الشريعة لكي يتم من خلاله الطعن في العلماء، وهؤلاء لا يمثلون آراء شخصية ولكنها هجمات جماعية منسقة ومكثفة، تعتمد على التهويل وعقد المقارنات المغلوطة وتعميم الآراء الشاذة، ثم تُردَف تلك التُهم دوماً بالتباكي على الوطن الذي يريد الوصول للعالمية وهؤلاء «الظلاميون» يجرّونه للخلف!
إنّ إسقاط مكانة العلماء، السلف منهم تحديداً، يراد منه إزاحة من يفسر كتاب الله تفسيراً صحيحاً كما صحّ من السنّة أو أقوال الصحابة رضوان الله عليهم، ليخلو الجو لمن يشاء ليعبث بتفسير الآيات بمزاجه، ويراد منه إبعاد من درس وخَبَر الفقه وتبحّر فيه وعرف أقوال العلماء المتقدمين والمتأخرين في وجوه المسائل المختلفة، لكي يتسنى لبعض الهوامش أن يتعالموا ويخرجوا لنا بطوام لم يقل بها عالمٌ مِن قبل، حتى يضيع الدين وتعفى رسومه ويصبح أطلالاً ينعق فيها البوم، ويصبح المجتمع تائهاً لا تحركه إلا الغرائز ولا يقتفي إلا شهواته الصرفة، حينها تكون شمس هذا المجتمع قد أزفت على المغيب، فمن زرع الريح لن يجني إلا العاصفة.