بقلم - عوض بن حاسوم الدرمكي
يقول الكاتب الأمريكي الشهير مارك توين: «عندما تكون الحقيقة لا تزال تربط حذاءها تكون الكذبة قد قطعت نصف الكرة الأرضية»، فالحقيقة تأخذ وقتاً لكي تُطرَح ثم وقتاً آخر لكي تستوعب تفاصيلها وأدلتها وتعقيداتها وتفريعاتها العقول الواعية، بينما الكذبة تُطرَح سريعاً وتنتشر كالدخان حتى يظنّها البعض سحاباً مثقلاً بالمطر!القارئ المتدبّر للقرآن الكريم يجد فيه قصصاً كثيرة للسجال الفكري بين الصواب والخطأ، بين تقديس الخالق وتقديس المخلوق، بين تأطير العقل بالنقل ومن يرى العقل لوحده مصدر التنظير والتشريع، نقرأ تساؤل سيدنا إبراهيم عليه السلام ومحاولته إيقاظ الفكر الحقيقي في قومه عند تأليههم للأصنام فيقول: «مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ» فلم يجد إلا النفور لأنه لم يأتِ كما يشتهون، لنصل إلى سيدنا موسى عليه السلام وهو يسخر من انتقال التأليه والتقديس للإنسان ويدعو صاحبه ليعيد عقله إلى مساره الصحيح الذي تسنده البصيرة فيقول لفرعون: «هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى وأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى»، لكن المنحرف عن الصواب لا يقتنع بالحق فيبدأ في خلط الأمور للتلبيس على من حوله ثم ختمها بالسخرية من صاحب الحُجّة ليصفّق له أصحابه لطي صفحة هذا السجال المربك، فيقول: «يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ* أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُو مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ» وكلنا نعلم خاتمة القصتين !
ليس انفلات البعض الفكري بغريب، فقد بدأه إبليس برفض السجود لآدم مستنداً إلى تبريره العقلي: «قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ»، ومروراً بكل الرسل عليهم السلام فقد كان مُكذّبوهم يدّعون العقل أيضاً، ولكنّ الادعاء لا يعني شيئاً إنْ كان الأساس خاطئاً، ومَن قرأ في كتب العقيدة تحديداً سيجد الكثير ممن انحرف عن الطريق ثم كابَر على الخطأ رغم هشاشة حُجّته وفساد أدلته، فالإنسان ضعيف، والباحث عن الشهرة أكثر ضعفاً من غيره، فهو سيرد الحق مهما ظهر له من دلائله وبراهينه حتى لا تسقط مكانته بين الناس أو خوفاً من أن يُخلَع عنه لقب «المفكّر» و«المجدد»، ثم يعود لزاوية النسيان المظلمة الباردة !
من حق الجميع أن يقول رأيه، لكن شريطة أن لا يخرج الإنسان من اختصاصه ويحشر نفسه في اختصاص ٍ مختلف لا يملك فيه لا تأهيلاً ولا خبرةً، لأنه حينها سيأتي بالطامّات وسيخرج بفهمٍ شاذ ونتائج «جايبة العيد» لأنّ الأساس غير موجود أصلاً، فالأرض الرخوة لا بد أن يكون البناء عليها هشاً آيلاً للسقوط، هذه الجزئية لا يجوز تجاوزها، فهي من أبسط البديهيات التي لا يُجادل فيها إلا جاهل، فالعقل السليم لن يقبل قول صيدلاني في الهندسة، ولا مُزارِع في الكيمياء، ولا مدرس لغةٍ إنجليزية في العربية، ولا مدرب كرةٍ في صناعة الكُرة نفسها، ومن ذات الباب لا يتكلم في العقيدة والفقه والحديث والتفسير من لا يملك فيها من مؤهلات إلا مزاجه الشخصي وآراءه العبثية !
مرحباً بالنقاش بين المختصين، فديننا حيّ، وفقهنا متجدّد، والمذاهب فيه تجد في كل منها القولين والثلاثة في المسألة الواحدة من الفروع، تيسيراً على الناس لاختلاف الأزمنة وتباين الظروف، والـمُطَّلِع سيجد كُتباً كثيرة قد أُلّفت في النوازل المستجدة، وهو أمر يحفظ لهذا الفقه حيويته، لكنه في نفس الوقت لا يجعله مزاجياً، بل يكون مؤطراً بمقاصد الشريعة السمحة كما بيّن ذلك الإمام الشاطبي في كتابه «الموافقات» وغيره من الأئمة، أمّا ما وجد فيه نص صريح من القرآن أو صحيح من السنة فلا يجوز معارضته بمزاج شخص يرى تحليل الحرام كلما «ضربت في دماغه»، ولا يُعتدّ بمن يطبلون له لأنه سهّل لهم طرق الوصول للملذات الممنوعة، فأقوال الناس ليست بحاكمة على الشرع، وشهواتهم ليست من يحدد الـمُحلَّل مِن الـمُحرَّم، وفي ذلك قال سبحانه: «ولَو اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ والْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ».
مما يُروى عن الإمام الشافعي قوله: «لولا المحابر لَخَطَبَت الزنادقة على المنابر»، ويقصد بذلك أن هذا الدين قد دوّنت نصوصه بنقل الثِقات الأثبات عن الثقات الأثبات، فالقرآن الكريم مُدوَّن وسنة خاتم أنبياء الله قد انبرى لها الأفذاذ من الحُفّاظ المؤتمنين فميّزوا ما صحّ من أسانيدها وأوجدوا منهجية لقبول الأحاديث لم تسبقهم بها أُمّة في تاريخ البشرية الطويل، فلم يعد هناك فراغٌ ليعبث به فاسد، ولا تُغيّر الجَلَبة لتلميع البعض الفارغ شيئاً، فأمثالهم وجدوا محاولات تلميع مستميتة طيلة القرون الأربعة عشر الماضية لكنّهم اندثروا واندثرت أفكارهم لأنها أبعد ما تكون عن الفكر السليم والفطرة السوية، كما تقول الحكمة الصينية القديمة: «لا يمكنك أن تلوم المرآة إنْ كان وجهك قبيحاً»!