خطوات الطمأنينة

خطوات الطمأنينة

خطوات الطمأنينة

 صوت الإمارات -

خطوات الطمأنينة

عوض بن حاسوم الدرمكي
بقلم - عوض بن حاسوم الدرمكي

ينقل الفيروز أبادي في كتابه «البُلغة في تراجم أئمة النحو واللغة» في ترجمة الإمام أبي الحسن علي بن جابر اللخمي الإشبيلي أنّه توفي سنة 646 هـ لـمّا دخل الروم (القشتاليون) إشبيلية صلحاً بنحو من ثمانية أيام، فهَالَهُ نُطْق نواقيس الكنائس وخَرْس أذان الجوامع والمساجد، فما زال يتأسّف ويضطرب إلى أن قضى نحبه حُزناً وكمداً عليه رحمة الله!

ما أكثر نِعَم الله علينا التي لا ننتبه لها كثيراً، ولا نعرف قيمتها إلا حين افتقادها، فلا يعرف قَدْر العافية إلا المريض، ولا اللقمة إلا الجائع، ولا الأمن إلا الـمُرَوَّع، ولا يفتقد الطمأنينة إلا من حُرِم الخُطى للمساجد، ولا سكينة الروح إلا من غاب عن سمعه همهمات المصلين بالقرآن واللهج بالدعاء في السجود، هي أمور لا يشتريها مال ولا تباع بكل كنوز الدنيا، لكنها للأسف هي من الأمور التي أخذناها «على المضمون» فلم نُقَدِّرها حق قدرها حتى فُجِعْنا بغيابها طيلة الشهور الثلاثة التي خنق فيها فيروس كورونا الدنيا وأجبرها على الانكفاء على نفسها وإغلاق كل شيء تقريباً، لم يكن هناك من شيء أكثر وجعاً مِن إغلاق المساجد وتعليق الجُمَع، ولا نزال نذكر مقاطع الفيديو التي حملت بكاء الكثير من المؤذنين في المملكة العربية السعودية وهم ينطقون «صَلّوا في رِحالكم»، ولا نكاد ننسى تلك الغُصّة التي ألجمتنا ونحن نرى صحن الحرم المكي الشريف خالياً من الطائفين والراكعين والساجدين، ولم نَعُد نجرؤ على النظر تجاه مساجد الأحياء التي ألفناها فما نرى إلا أبواباً مُغلقة وصمتاً حزيناً يجترّ الموت للنفوس اجتراراً !

غَبَطنا إخوتنا في فلسطين ونحن نراهم يهرعون سراعاً، رجالاً ونساءً، كباراً وصِغاراً بعد فتح الصلاة في المسجد الأقصى المبارَك ويتساقطون على أعتابه سُجّداً من الفرح وقلنا في قرارة أنفسنا «عقبالنا»، ثُم فُتحت مساجد المملكة وتسمّرنا أمام شاشة التلفاز لنرى نقل الصلوات في المسجد النبوي الشريف، فنضيع بين دمعة فرح وتنهيدة اشتياق وغُصّة افتقاد، تتقطّع قلوبنا ونحن نسمع الشيخ الحذيفي يقرأ بتلاوته العذبة: «الحمد لله رب العالمين» فتصغر كل لذّات الدنيا أمام تلك اللحظات النورانية الربّانية، وتهمس كل ذرّات أجسادنا: «عقبالنا» !

كانت القلوب قبل الآذان تنتظر وقت الإحاطة الإعلامية كل يوم أملاً في سماع بشارة فتح المساجد، والتي أتت بعد استكمال كل الاشتراطات الوقائية لروّادها، وما أكثر الذين لم يناموا تلك الليلة حتى لا تفوتهم صلاة الفجر بعد طول غياب، لم يكن يؤلم القلب شيء مثل جملة «صلّوا في بيوتكم» فذهبت وبعون الله للأبد، كانت الخُطى تتسارع لأول صلاة وفي البال حديث النبي صلى الله عليه وسلّم: «بَشِّر المشّائين في الظُلَم إلى المساجد، بالنور التام يوم القيامة»، هو سعيٌ لمرضاة الله، سيرٌ لنيل رحمته، طلبٌ لهدايته وتوفيقه، توسّلٌ بأن لا تعود أيام فراق بيوت الله أبداً.

أصبحت لصلاة الجماعة بالمسجد لذّة لم نكن نعرفها سابقاً، فقيمة الشيء لا تُعرَف إلا بفقدانه، كما قال الإمام ابن حزم القرطبي: «إنّ العبد ليتعلَّمُ في ساعاتِ البلاء ما لا يتعلّمه في سنوات العافية»، لم يَعُد هناك مَن يتأخر ويأتي على آخر ركعةٍ في الصلاة، لم يَعُد هناك مَن يتثاقل عن صلاة الفجر أبداً، ولا تكاد تسمع بعد كل صلاة إلا حمد الله بوجوه يعلو جباهها البِشْر، وبطمأنينة تشعر بها في سلامهم لبعض «من بعيد»، الطمأنينة التي جعلت التابعي سعيد بن المسيّب لا تفوته تكبيرة الإحرام والصف الأول بالمسجد مدة أربعين سنة !

المسجد سكينة ونورانية وقُرْب من الله تعالى وتعلّق به، ألم يقل نبينا الكريم من السبعة الذين يُظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظِل إلا ظِلّه: «ورجلٌ قلبه مُعلَّقٌ بالمساجد»، فكأنّ جسده من يخرج فقط، أمّا القلب فيبقى هنا في بحارٍ من النور والطمأنينة والسلام الداخلي الذي لا تستطيع مجاراته خُطب جويل أوستين أو محاضرات انتوني روبنز، هي سَجدةٌ فقط كفيلة بأن تعيد لملمة ما تناثر من الروح وبعثرة ما تراكم من الهموم !

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

خطوات الطمأنينة خطوات الطمأنينة



GMT 21:31 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

كهرباء «إيلون ماسك»؟!

GMT 22:12 2024 الثلاثاء ,22 تشرين الأول / أكتوبر

لبنان على مفترق: السلام أو الحرب البديلة

GMT 00:51 2024 الأربعاء ,16 تشرين الأول / أكتوبر

مسألة مصطلحات

GMT 19:44 2024 السبت ,12 تشرين الأول / أكتوبر

هؤلاء الشيعة شركاء العدو الصهيوني في اذلال الشيعة!!

GMT 01:39 2024 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

شعوب الساحات

GMT 18:55 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
 صوت الإمارات - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 18:59 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
 صوت الإمارات - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 06:14 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

العاهل الأردني يلقي خطاب العرش في افتتاح مجلس الأمة العشرين
 صوت الإمارات - العاهل الأردني يلقي خطاب العرش في افتتاح مجلس الأمة العشرين

GMT 19:13 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر
 صوت الإمارات - الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 19:11 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25
 صوت الإمارات - "نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25

GMT 18:09 2018 الثلاثاء ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

تصميمات مختلفة لسلاسل من الذهب رقيقة تزيدك أنوثة

GMT 11:26 2018 الجمعة ,19 كانون الثاني / يناير

الصين تتسلم الدفعة الأولى من صواريخ "أس-400" الروسية

GMT 16:28 2017 الجمعة ,20 كانون الثاني / يناير

تسمية بافوس القبرصية عاصمة للثقافة الأوروبية

GMT 18:36 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

تنجح في عمل درسته جيداً وأخذ منك الكثير من الوقت

GMT 12:16 2020 الإثنين ,01 حزيران / يونيو

تجنّب أيّ فوضى وبلبلة في محيطك

GMT 17:14 2019 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

بن راشد يُصدر مرسوماً بضم «مؤسسة الفيكتوري» إلى نادي دبي

GMT 01:20 2019 السبت ,20 تموز / يوليو

نبضات القلب المستقرة “تتنبأ” بخطر وفاتك!

GMT 02:41 2019 السبت ,05 كانون الثاني / يناير

"الفاتيكان" تجيز استئصال الرحم من المرأة لهذا السبب فقط

GMT 23:19 2013 الأربعاء ,12 حزيران / يونيو

"Gameloft" تستعرض لعبة "Asphalt"بهذا الصيف

GMT 13:12 2013 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

معرض الكتاب الكويتي منصة متميزة لأصدارات الشباب الأدبية

GMT 09:48 2013 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

الإذاعة المِصرية تعتمد خِطة احتفلات عيد "الأضحى"
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates