وجه القمر

وجه القمر!

وجه القمر!

 صوت الإمارات -

وجه القمر

عوض بن حاسوم الدرمكي
بقلم - عوض بن حاسوم الدرمكي

يروى أنّه كان في إحدى القرى رسّام عجوز، وكان يرسم لوحات غاية في الجمال، ويبيعها لمحبي الفن في المدن الكبيرة المجاورة بسعر جيّد، حتى خُيّل لأهل قريته أنه يكنز الكثير من الأموال، في أحد الأيام أتاه فقيرٌ من أهل القرية وقال له:

«أنت تكسب مالاً كثيراً من أعمالك، فلماذا لا تساعد الفقراء في القرية؟ انظر لجزّار القرية الذي لا يملك مالاً كثيراً كما تملك أنت ومع ذلك يوزّع كل يوم قطعاً من اللحم المجّانية على الفقراء.. وانظر إلى خبّاز القرية، فبرغم أنّه رجل فقير ذو عيال إلا أنه يُعطي الفقراء خبزاً مجانياً كل يوم!».

لم يردّ عليه الرسام وابتسم وعاد لإكمال لوحته التي أمامه بهدوء؛ فانتفخت أوداج الفقير وخرج غاضباً وهو يرسل اللعنات، وذهب مباشرة إلى وسط القرية حيث يجتمع الناس، وأخبرهم بما دار بينه وبين الرسّام، وكيف أنّه على ثرائه إلا أنه رفض أن يُساعد الفقراء والمحتاجين من أهل قريته، فنقم عليه الناس وقرروا مقاطعته وهجرانه ومنع أي شخص من الحديث إليه!

بعد فترة من الزمن مرض الرسّام مرضاً شديداً، وطلب المساعدة من المارّين بقرب نافذة بيته، ولكنّ أحداً لم يهتم لطلبه حتى أثقله المرض وتوفي وحيداً، ولم ينتبه الناس إلى موته إلا بعد مدة ولم يقم بحمله ودفنه سوى الجزّار والخبّاز من دون أن يحضر جنازته أحد!

 

مرّت الأيام ولاحظ أهل القريّة أنّ الجزّار الكريم لم يعد يعطي لحماً مجانياً للفقراء، وكذلك الخبّاز الطيّب لم يعد يمنح خبزاً طازجاً ومجانياً لهم، فاجتمع الناس ليسألوهما عن سبب تغيّر سلوكهما وتركهما لعشرات الفقراء الذين لا يملكون شيئاً يتضوّرون جوعاً عند أبواب حانوتيهما، فكانت المفاجأة المدوية التي لم يتوقعها أحد!

لم يكن الخباز كريماً ولم يكن الجزار شهماً هو الآخر، ولم يكونا يقدمان اللحم والخبز من دون مقابل، بل كانا يحصلان على ثمنه كاملاً مقدّماً كل شهر، ولكن مِن مَن؟ لم يكن ذاك الشهم الكريم سوى الرسّام العجوز الذي لم يكن يتفاخر بكرمه وعاقبه أهل قريته بمقاطعته طيلة ما تبقّى من حياته ولم يساعدوه وهو يتوسل إليهم أن يأتوه بطبيب لعلاج مرضه حتى مات وتُرِك هناك فترة لم ينتبه لها إلا الجزار والخباز لأنهما أتيا لاستيفاء ثمن ما سيقدمانه للفقراء الشهر القادم!

أحيانٌ كثيرة نتسرّع في أحكامنا على الآخرين، وقد نتعجل بتبنّي آراء غيرنا عن أشخاص ٍ آخرين من دون تأكّد، ولو تذكّرنا أنّ هناك من سيحكم علينا من دون معرفة حقيقية أو من مجرد آراء الآخرين الذين لا يستسيغوننا ولا «ننزل لهم من زور» فربما غضبنا وتباكينا على هذا الظلم وبأنّه ليس من حق أحد أن يحكم علينا من دون تثبّت، لو تذكرنا لما حلّلنا لأنفسنا ما حرّمناه على غيرنا!

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «رُبَّ أشعث أغبر ذي طمرين لا يُؤبه له – وفي رواية: مدفوع بالأبواب - لو أقسم على الله لأبرَّه»، فإن كان هذا المسكين الأشعث الأغبر والذي لا يجد إلا البالي من اللباس ولا يسمح له بدخول مجالس عِلية القوم قد يكون ممن يستجيب رب السماء والأرض لدعائه لو دعا ولو أقسم على الله لأبرَّ بقسمه، فبأي حق نسارع في الظن بالناس؟ ولماذا لا نتحرى الحقّ فعلاً ما دمنا نتكلم عنه ليل نهار؟ هناك من يبدو ظاهره حسناً ولكنّه يحمل قلب ذئب، وهناك من يبدو ظاهره مُنَفِّراً ولكنّه لا يَكِلّ ولا يمَلّ من فعل الخير، بل حتى الإنسان الرائع يبقى إنساناً، تمرّ به ظروف متباينة تُخْرِجه عن طوره، وأحياناً يصبح فيها عصبياً أو فضّاً كما يحدث لنا بين الفينة والأخرى، فلا يصحّ أن نُعمّم سلوك تلك اللحظات الشاذّة ونجعلها سِمةً له، وكما نجد لأنفسنا الأعذار فلنجتهد في وضع «رُبْعِها» فقط للآخرين!

من ظننا به السوء وليس كذلك فلن يضرّه ذلك شيئاً، ومن أحسنّا به الرأي ولم يكن كما ظنناه فلن ينفعه أيضاً رأينا بشيء، كل إنسان سيُحاسَب وحيداً أمام ربّه: «فمَن يعمل مثقال ذرّةٍ خيراً يره ومَن يعمل مثقال ذرّة شرّاً يره»، المهم أن نُحسِن الظن بالناس، وعندما يحاول البعض قلب الأمور ويحاول تذكيرنا بأنّ للقمر وجهاً مُظلماً فلنُخْبِره أنّ للقمر وجهاً منيراً أيضاً!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

وجه القمر وجه القمر



GMT 21:31 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

كهرباء «إيلون ماسك»؟!

GMT 22:12 2024 الثلاثاء ,22 تشرين الأول / أكتوبر

لبنان على مفترق: السلام أو الحرب البديلة

GMT 00:51 2024 الأربعاء ,16 تشرين الأول / أكتوبر

مسألة مصطلحات

GMT 19:44 2024 السبت ,12 تشرين الأول / أكتوبر

هؤلاء الشيعة شركاء العدو الصهيوني في اذلال الشيعة!!

GMT 01:39 2024 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

شعوب الساحات

GMT 20:03 2020 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

يبشّر هذا اليوم بفترة مليئة بالمستجدات

GMT 08:02 2016 الثلاثاء ,01 آذار/ مارس

جورج وسوف يستقبل أحد مواهب"The Voice Kids" فى منزله

GMT 02:49 2017 الجمعة ,06 تشرين الأول / أكتوبر

وصفة صينية الخضار والدجاج المحمّرة في الفرن

GMT 14:30 2017 الخميس ,05 كانون الثاني / يناير

صغير الزرافة يتصدى لهجوم الأسد ويضربه على رأسه

GMT 10:56 2021 الثلاثاء ,23 شباط / فبراير

إذاعيون يغالبون كورونا

GMT 12:44 2020 الجمعة ,03 كانون الثاني / يناير

الريدز ومحمد صلاح في أجواء احتفالية بـ"عيد الميلاد"

GMT 07:32 2019 الخميس ,05 كانون الأول / ديسمبر

نيمار يقود باريس سان جيرمان ضد نانت في الدوري الفرنسي

GMT 00:59 2019 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

اتيكيت تصرفات وأناقة الرجل
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates