بقلم - عوض بن حاسوم الدرمكي
يذكر كتاب «الاستراتيجيات الستة والثلاثين للحرب» عن حروب الممالك الصينية أنّ قوات تشاو حاصرت قوات تانج المتحصنة خلف أسوار المدينة، ولم يكن هناك توازن بين قوات الطرفين، فقد كانت نسبة الجنود 20 إلى واحد لصالح قوات تشاو، وبسبب طول المناوشات نفدت الأسهم من الرماة خلف الأسوار وأصبحت دفاعاتهم سهلة الاقتحام فكان لا بد من وسيلة إنقاذ!
لذا أمر قائد تانج بصنع دُمى على هيئة البشر محشوّة بالقش وأن يتم إدلاؤها من أسوار المدينة عند غروب الشمس، مع إحداث ضوضاء لينتبه لذلك جيش تشاو، والذي أمر قائدُه رُماةَ الأسهم ليُمطروا أولئك الجنود الوهميين بوابل من السهام والتي امتلأت بها أكياس القش ثم تم رفعها واستخراج النبال منها واستخدامها في رمي القوات القريبة من الأسوار ما جعل القائد الغازي يُجَن من الغضب لهذه الخديعة!
في مساء اليوم التالي رأى قائد تشاو نفس الخديعة وأجساداً تتدلى من أسوار المدينة، كان واثقاً أنها لُعبة كسابقتها وهو لن يقع فيها، لذلك أمر أن لا يُطلَق سهم واحد حتى لا يستفيد منه جنود المدينة المحاصَرة، وفي تلك الأثناء كان مَن تدلى 500 محارب حقيقي انسلوا في الظلام وهاجموا خيمة القيادة وفتكوا بمن بها وذُعِر الجنود لمقتل قياداتهم ففروا جميعاً وانتهى حصار تانج !
التذاكي مصيدة كبيرة يسقط فيها البشر، والاعتماد على نظرةٍ قاصرة دون انتباه وحساب لما عداها لا يؤدي في الغالب إلا لمزيد من العثرات، وفي كثير من الأحيان تبدو الأمور في صورة مختلفة عن حقيقتها أو بالأصح نحن من يحاول أن يجعلها أقل خطراً مما هي عليه أو أكثر نفعاً مما يجب أن تكونه، فأهواؤنا تتحكّم كثيراً في نظرتنا لما حولنا، فتخذلنا باختيارنا لنبحث بعدها عن شمّاعةٍ لإلقاء اللوم عليها!
البشر يُصدّقون ما يريدون، وفي سبيل ذلك يستميتون في البحث عن أي شيء يدعم آراءهم ويؤيد وجهات نظرهم، ويصمّون آذانهم عن أي صوت يُفنِّد ما يقولون أو يوضح عواره ونقائصه، وغالب تلك الاستماتة تكون في محاولة الحفاظ على الواقع كما هو و«الباب اللي يجيك منه الريح سدّه واستريح»، وكثيراً ما يُلاقون مصفقين لهم من أصحاب نفس النظرة وممن ألِف أموراً ولا يقبل مجرد التفكير في أنها ستتغيّر، فهم ببساطة لا يتقبلون التغيير ولا يريدون تصديق وجوده فضلاً عن ضرورة التكيّف معه!
Volume 0%
الخوف من التغيير ينبع أساساً من جزئيتين مهمتين لدى البشر: الوفاء للعادات، والخوف من فقد السيطرة على ما ألِفوه مِن حولهم، وذلك نراه كثيراً هذه الأيام مع هذه الجائحة التي قلبت الأمور رأساً على عقب، فحنين الناس لما اعتادوا عليه تضجّ به كل منصات التواصل، فلا يريدون لبس كمام، وضاقوا ذرعاً بالقفازات، وسئموا الابتعاد عن تجمعاتهم المعتادة، وتباكوا على السفر وزيارة الدنيا والاختلاط بالشعوب الأخرى، وكل ما يمنعهم من ذلك يُحطمهم من الداخل، ويجعلهم مرتبكين في طريقة التعايش الجديدة وغير واثقين أن غدهم سيكون جيداً وهم قد فقدوا التحكم بالكثير مما ألفوه !
اتصلتُ بأحد الأصدقاء بعد قراءتي رسالة نصية منه تفيد إصابته بالفيروس، غمرتني قشعريرة وأنا أسمع صوته وكأنّه آتٍ من بوابة الموت، نبرةٌ بالكاد تسمع وأنفاسٌ متقطّعة وحشرجة شهيقه تهزّ أعماقي بعنف، لم أُطِل عليه حتى لا أُرهقه أكثر وهو في قسم العناية المركزة، في اليوم التالي كان يبعث لي برسالة تقول إنّه لم يكن يظن يوماً أن الدنيا وكل ما فيها لا تساوي «نَفسَاً» واحداً، وأنّ كل حماسه القديم عن نظرية المؤامرة والحرب الاقتصادية العالمية وبأنّ الكورونا لا يعدو أن يكون إنفلونزا عادية لا أكثر قد نسفتها تلك الدقائق التي كان يُصارِع فيها الموت وهو الشاب ذو الجسد القوي الذي لا يشكو من أي مرضٍ مزمن !
الحياة أهم من عاداتنا اليومية، والسلامة يجب ألا توضع في مجال اختيار بينها وبين رغباتنا وأهوائنا، ومَن لم يتعلّم من غيره فإنّه سيتعلم درساً مؤلماً في نفسه، فلا تجعل ما ألفته مصيدة تؤذيك، ولا تثق كثيراً بوجهة نظرك الشخصية فقد تختلط عليك الأمور وتظن المحاربين المتدلين من الأسوار مجرد دمى محشوة بالقش!