حليب العصفور

حليب العصفور!

حليب العصفور!

 صوت الإمارات -

حليب العصفور

عوض بن حاسوم الدرمكي
بقلم - عوض بن حاسوم الدرمكي

في المأثور الصيني تذكر القصة أنّ شيخاً حكيماً كان يقطن إحدى القرى، وقد عُرِف عنه قدرته على قراءة الأحداث والتنبؤ ببعض أمور المستقبل بناءً على ما يراه من سياق الأحداث أمامه، الأمر الذي جعله محط احترام وإعجاب سُكان القرية، وهو شيءٌ لم يُعجب اثنين من الأشقياء، فعمد أحدهما وأمسك بعصفور صغير خلف ظهره ووقف أمام الشيخ الحكيم وقد أراد إحراجه على الملأ بإثبات خطأ تنبئه، فسأله إن كان العصفور حياً أم ميتاً؟!

علم الشيخ أن القضية خاسرة مع أي جواب، فإن قال «ميّت» فسيتركه يطير، وإن قال «حي» فسيضغط عليه بقبضته حتى يكتم أنفاسه ثم يُظهِره للناس وهو ميّت، فابتسم الشيخ وقال له وهو يكمِل مسيره: العصفور سيكون كما تريده أنت!

البعض في هذه الأيام أصبح مثل ذلك الشقيّ، يعشق المشاكسة ويهوى المخالَفة ولا يعجبه العجب ولا صيام رجب، لديه قناعة راسخة أنّ كل ما يجري هو معيب ولا بد أن يُصلِحه، وأن كل الجهود منقوصة ولا بد من تصويبها كما يرى هو، ليس بكاملٍ في نفسه لكنّه يريد الكمال في غيره، يقتات على الأحداث السيئة ويطرب للعثرات التي لا يخلو منها إنسان، ليبدأ في ردحٍ مُعاتِبٍ، يُبطَّن بالغمز تارة، ويُصرَّح بالنقد اللاذع تارةً أخرى، ولسان حاله يقول: «أنتم بدوني كيف تعيشون»!

نعم نحن مع النقد البناء في الأمور التي تستحق، لكن لا يُعقَل أن يكون النقد لكل شيء، هناك مساحات رمادية يُفضَّل تجاوزها لأنها مما لا يخلو مجتمعٌ من وجودها وبها مجال كبير «للتطويف»، وإنّما يتوجب النقد «المهذّب» في الأمور التي يمس وجودها سلامة الكيان وازدهاره وحاضر مجتمعه ومستقبله، وهذا النقد بدوره لا بد أن يكون متزناً، وأن ينصب على نقد السلوك أو الإجراء وليس الإنسان، حتى لا يبدو ذلك «شخصنة» وثأراً ذاتياً لا يُضيف للمجتمع إلا بلبلة هو في غنى عنها إنْ لم يذرَّ الملح على الجروح المفتوحة!

يُعرِّف لورنس بيتر - الأكاديمي الكندي الشهير – الخبير بأنّه ذاك الذي سيخبرك في الغد لماذا لم يحدث اليوم ما قاله لك بالأمس، ويبدو أنّ السيد لورنس يحتاج أن يُضيف تعريفاً آخر بأنّ الخبير هو الذي سينتقِد اليوم اختياراً صعباً تم بالأمس بظروف غير طبيعية ووفق معلومات لم يصل غيرها، ثم ثبت اليوم أنّ النتائج الجديدة توجِب إيقاف ذلك الخيار ثم يوقَف فعلاً، ليقفز الخبير منتقداً ويملأ الفضاء ضجيجاً وهو الذي كان صامتاً بالأمس صمت المقابر!

وباء فيروس «كورونا» وباء غير مسبوق، والمعلومات عنه غير معروفة لكونه مستجداً، وباستمرار الأبحاث تخرج توصيات بإجراء احترازي معين أو عدم ممانعة في استخدام دواء موجود لمرضٍ آخر لكن ثبت نجاحه في شفاء عدد كبير من المصابين في دولةٍ ما، لذلك تسارع الحكومات المهتمة بشعوبها والحريصة على سلامتها كما تفعل حكومتنا الغالية للمسارعة إلى تطبيق تلك الأمور الاحترازية وتوفير كميات كبيرة من تلك الأدوية التي توصي بها منظمة الصحة العالمية لفعاليتها في بلدٍ ما، هذا التصرّف هو «أقصى» ما يمكن أن يحلم به أي مجتمع حالياً، و«أوضح» دليل على حب تلك الحكومة لشعبها، ولو استطاعت أن تشتري له حليب العصفور لفعلت!هذا النهج الرائع والـمُقدَّر للحكومة الغالية يبدو أنه لا يحوز رضا بعض خبراء «تويتر» وأبطال الشاشات، فهم كما يظهر يريدون للحكومة أن تعلَم الغيب، ويعاتبها على توفير كميات كبيرة من دواء معيّن وجّهت باستخدامه تلك الفترة منظمة الصحة العالمية ثم ثبت أنّ له مضاعفات وتم إيقافه، ليخرج علينا أحدهم منتقداً اختيار الدواء وهو لم يقل شيئاً سابقاً، ويتباكى على المبالغ التي دُفِعَت لتوفيره، نعم يا سادة، ليست أموالاً تمت إضاعتها، ولكنها أموال أُنفقِت بسخاء لتوفير دواء «مُوصَى به» حرصاً على حياة هذا المنتقد وغيره!

من حقك أن تنتقد إن كان للصالح العام ولأمرٍ يُنتَقَد مثله، شريطة أن يكون ذلك دون تجريح أو تسمية شخصٍ أو جهة، ولكن أن يكون الانتقاد هو الديدن الوحيد للإنسان فذلك غير سليم، فانتقد ما يستحق وبالمقابل امتدح ما ترى من إنجازات ومجهودات، ولا تطالب غيرك بما لا تُطالِب به نفسك، فإن كان لديك مقترح فـ«الميدان يا حميدان» ولكن دعِ العصفور في حاله!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

حليب العصفور حليب العصفور



GMT 21:31 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

كهرباء «إيلون ماسك»؟!

GMT 22:12 2024 الثلاثاء ,22 تشرين الأول / أكتوبر

لبنان على مفترق: السلام أو الحرب البديلة

GMT 00:51 2024 الأربعاء ,16 تشرين الأول / أكتوبر

مسألة مصطلحات

GMT 19:44 2024 السبت ,12 تشرين الأول / أكتوبر

هؤلاء الشيعة شركاء العدو الصهيوني في اذلال الشيعة!!

GMT 01:39 2024 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

شعوب الساحات

GMT 19:13 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 16:12 2018 الأحد ,04 تشرين الثاني / نوفمبر

خليفة و بن راشد وبن زايد يهنئون رئيس بنما بذكرى الاستقلال

GMT 13:59 2015 السبت ,31 تشرين الأول / أكتوبر

تصاميم على شكل الماس لحقائب "إن إس باي نوف"

GMT 10:32 2016 الجمعة ,04 آذار/ مارس

لوني شتاءك بأجمل موديلات الأحذية الـ Pumps

GMT 01:32 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

عيش الرفاهية في فنادق ومنتجعات الجميرا الفخمة

GMT 01:28 2019 الأربعاء ,25 كانون الأول / ديسمبر

«بنتلي» تفوز بلقب الشركة الأكثر تقديرًا في بريطانيا

GMT 23:18 2019 السبت ,12 كانون الثاني / يناير

الزمالك يهزم بتروجيت في دوري كرة الطائرة المصري

GMT 19:14 2018 الخميس ,29 تشرين الثاني / نوفمبر

تعرفي على خطوات رئيسية لترتيب خزانة ملابسكِ الخاصة

GMT 11:52 2018 الأحد ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

6 أفكار أنيقة مميزة لزينة حفلات الزفاف

GMT 07:51 2013 السبت ,27 تموز / يوليو

جمال كامل فرحان يصدر رواية "كان ردائي أزرق"

GMT 04:48 2018 الثلاثاء ,19 حزيران / يونيو

رواية "الجنية" تمزج الواقع بالخيال بشكل واقعي

GMT 19:29 2013 الأربعاء ,22 أيار / مايو

خيبة المثقف في"طائف الأنس" لعبدالعزيز الصقعبي
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates