بقلم - عوض بن حاسوم الدرمكي
من جميل ما يروى عن عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل أنه قال: قلت لأبي: يا أبه أيُّ رجلٍ كان الشافعي فقد سمعتك تُكْثِر من الدعاء له، فقال: «يا بني كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للناس، فانظر هل لهذين من خلف أو منهما عوض».
كان الشافعي كذلك في عصره، وقضى الله أن لا يمر عصرٌ إلا وبه مَن هوبذات التفرّد وذات القبول بين الناس، وأكرمنا سبحانه أنّ نعايش أحدهم قبل أن يرحل عنّا وقد أخذ معه القلوب وبقيت في إثره الدعوات له ما أشرق صباح وأقبل ليل، مر في الدنيا مروراً لا يشبه مرور الآخرين، كان نسيج وحده حتى لكاد أن يصحّ فيه ما كان يقال «لم ترَ عينه مثل نفسه»، كان مختلفاً ليس تصنّعاً ولكن طبيعةً وسجيّةً وفطرة فَطَرَهُ الله عليها، لم يرحل إلا وقد عطّر هذه الدنيا بمآثره، وزيّن أيامها بكريم خصاله، وملأ بها من الناس كل عين وسَكَن في كل قلب، إنْ عُدَّ أهل المجد كان اسمه أول اسمٍ يُذكَر، وإنْ ذُكِرَتْ الأيادي البيضاء كانت كفوفه قد ملأت ما بين الخافقين خيراً ومعروفاً، فَلَهَجَتْ الألسن بحبّه واتفقت القلوب على مودته، تمرّ السنين على رحيله وذِكْرُه لا زال غَضَّاً في كل قلب، وتُغَيِّب الأيام وجهه لكن ملامحه مرسومة في كل فؤاد ومُحيّاه تكاد أن تُشْرِق تفاصيله في كل عينٍ تسكن هذه الأرض الطيبة، هم أهل الوفاء، وهو سيّد الوفاء: زايد، اسمٌ لا يحتاجُ للقبٍ قبله أو منصبٍ بعده، كان أُمّةً لوحده، تختصر حروف اسمه الأربعة كل تفاصيل المجد وتقصر عنها كل الألقاب !
كان رحمه الله قد اعتاد أن يَمُرَّ على الباعة البسطاء في سوق الميناء بأبوظبي، يتفقّد أحوالهم ويشتري منهم مالا حاجة له به ولكن لكي تَسهُلَ عليهم لُقمة العيش من بيع ما يُتاجرون به، كان أحدهم يملك سجّادة تحمل صورته رحمه الله منذ عام 1994 وأبقاها مُعلّقة في دكّانه المخصص لبيع السجّاد طيلة تلك السنين، وشاءت أقدار الله تعالى أن يمر عليه قبل بضعة أشهر أحد الأشخاص ويُساومه على شرائها وهو يصوّره دون أن ينتبه، وكم كان غريباً رفض «موسى خان» بيعها وقد تغيّرت نبرة صوته وعَلَتْ وكأن ذاك الشخص أقْدَمَ على إهانته بذلك الطلب، لم يجعله يُكمِل جُملته وهو يقول له «لا لا لا.. هذا بابا زايد» ويقطع عليه الطريق وهو يقول له بأنه مهما دفع له من مئات الآلاف فلن يبيعها ثم يضيف له مستغرباً بلغته العربية المكسّرة «كيف بيع صورة مال بابا زايد؟»، أراد أن يوصل لذلك الشخص أنه يطلب منه شيئاً كان من الأجدر أن لا يطلبه من الأساس لأنه غير مقبول بتاتاً!
واصل ذاك الشخص الإلحاح وطلب منه أن يسأل والده العجوز فقد يوافق، ليرد موسى خان بأنّ والده لو سمع منه هذا الطلب فسيبرحه ضرباً، وما هي إلا دقائق وإذا بالعجوز ذي اللحية الطويلة يدخل وما إن سمع الطلب الغريب حتى هزّ رأسه رافضاً هو الآخر، وعندما قال له المشتري بأنه سيدفع الكثير له مقابلها، ردّ عليه ذلك العجوز الوفي بلهجته البسيطة: «فلوس خلّي يولّي»، كان يريده أن يعرف بأنّ هناك أموراً لا تُشترى ولا يُمكن أن تُساوم!
انتشر ذاك الفيديو انتشاراً واسعاً بين الناس وأحب الجميع وفاء أولئك الباعة البسطاء الذين رفضوا عروضاً كثيرة لبيع قطعة سجاد بمبالغ عالية جداً، لكنّها بالنسبة لموسى خان ووالده لم تكن قطعة سجاد، كانت تحمل صورة «حبيبهم» الذي كان يتعاهدهم بالزيارة وهو رئيس دولة وزعيم أُمّة، ويمازحهم ويتعاهدهم بالسؤال عن أحوالهم وأحوال عائلاتهم قبل أن يشتري عندهم ما يعرفون حقاً أنه لا يحتاجه، وأحبّوا أنه عَمَدَ لتلك الطريقة حفاظاً على كرامتهم مِن أن يُعطيهم أموالاً دون مقابل، كان العجوز ينظر لصورته رحمه الله في السجادة وهو يقول إنّها جزء من عائلتي التي لا يمكن أن أُفرِّط فيها!
الخميس الماضي كان دُكّان موسى خان بسوق الميناء يستقبل ضيفاً آخر، اكتظت جنبات السوق من الباعة وهم يتسابقون للسلام على ابن حبيبهم، على صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان والذي أتى زائراً لشُكر موسى خان ووالده على ذلك الوفاء الجميل وذاك الموقف النبيل، أتى بو خالد حفظه الله دون ضجيج يرافقه قِلّة من أصحابه، لم يؤمر أحد بالخروج فالزيارة كانت مفاجئة للجميع، لكن القلوب التي أحبّت زايد تُحب ابنه، فمن أحب الشجرة أحب أغصانها كما تقول العرب، بريق الفرح في عيون من خرجوا وابتساماتهم كانت خير دليل على حب هذا الرجل الذي رأوه امتداداً لزايد الخير، فيه من هيئته ومن هيبته وفيه من طيبه ومن لين جانبه، كعادته لم يتبرّم وهم يطلبون منه أن يلتقط صور «سيلفي» معهم واحداً واحداً، عناقه لهم كان خير ترجمان لحديث رسولنا الكريم صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق»، وشُكْرِه بنفسه لبائع السجاد ذاك كان أعظم من كل أموالٍ قد توهب له من أجلها، كان سامياً كعادته حفظه الله وهو يربت على كتف موسى خان وهو يقول له بأنّ الإمارات هي بلده، هو كأبيه، فرائد لا يجود بها الزمان كثيراً، هم دوماً كالشمس للدنيا وكالعافية للناس.