النصال المقلوبة
آخر تحديث 22:05:59 بتوقيت أبوظبي
الاثنين 17 شباط / فبراير 2025
 صوت الإمارات -
أخر الأخبار

النصال المقلوبة!

النصال المقلوبة!

 صوت الإمارات -

النصال المقلوبة

عوض بن حاسوم الدرمكي
بقلم - عوض بن حاسوم الدرمكي

عندما ولج لسان الدين بن الخطيب، عتبة قصر الحمراء بغرناطة، فتح له شعره وخطّه الجميل، أن يكون كاتباً للوزير أبي الحسن بن الجيّاب، وشاء الله أن يتوفى هذا الوزير خلال سنة الطاعون، التي فتكت بالأندلس، فآل إلى لسان الدين منصب الوزارة للأمير أبو الحجاج يوسف بن نصر، والذي قتل بعد فترة، لينتقل الملك لابنه الغني بالله محمد.

واستمر ابن الخطيب وزيراً له، وبدأ حينها في خلق أعوانٍ و«لوبي» له، فقرّب له مجموعة، منهم القاضي النبهاني، الذي ولّاه القضاء، والشاعر ابن زَمْرَك، الذي أسند له الكتابة، وقرّبهما من الأمير محمد الغني بالله.

في ذاك العصر، كانت الحجابة تفوق مرتبة الوزراء، وكان يشغلها رجل يُدعى الحاجب رضوان، لكن من جديد، شاءت أقدار المولى سبحانه، أن يُقتل هذا في ثورة على الغني بالله، والذي هرب لفاس، ولحقه ابن زمرك سريعاً، بينما التحق به لسان الدين بعد عامين، قيل كان مسجوناً وقيل تلكؤاً، ثم بمعونة سلطان المغرب، استعاد الغني بالله مُلْك غرناطة، وعاد لسان الدين لمنصبه، ولكن ابن زمرّك صديق الأمس، أصبح هو الأكثر حظوة وقُرباً لدى الأمير.

النفس البشرية بطبيعتها تخشى على مصالحها، و«تُشرّع» وتُحلِّل لفائدتها كل الأمور، هي ميكافيلية بوجهٍ مُمَكْيَج، فعلى رفعة قدر لسان الدين بن الخطيب، إلا أنه لم يترك طريقةً لإبعاد من يرى الأمير قد أُعْجِبَ بهم من العلماء والشعراء وأهل الفكر.

كما فعل بالتضييق وإبداء الامتعاض من صديقه المؤرخ الكبير ابن خلدون، وجعله يغادر غرناطة سريعاً، كان لديه هوس للاستئثار بالمناصب لنفسه، أو منحها لمن يقلّون عنه مكانة، حتى لا يغدوا مصدر تهديدٍ له، لذا، لم يكن غريباً أن يكون الجزاء من جنس العمل، وبطريقة أشد قسوة!

بدأ صديقه وتلميذه ابن زمرك، في التآمر و«الحفر» للحصول على منصب أستاذه، فسعى بالوشاية عليه عند الأمير، وأعانه في تلك العملية قاضي القضاة النبهاني، وبدأت التُهم بأنّ لسان الدين يتدخل في أمور القضاء، ثم بدأت تزيد شيئاً فشيئاً، حتى شعر ابن الخطيب بتغيّر الأمير عليه.

فهرب إلى سلطان المغرب، أبو فارس المريني، ليقضي بقية حياته بعيداً عن «وجع الرأس» ومعارك الكراسي والألقاب، لكنهم لم يتركوه، لأنه قد يعود في أي لحظة، وقد يكتشف الأمير كذب ادّعاءاتهم، فينهدّ كل ما بنوه، فقاموا برفع سقف التُهم، و«حطّوا عليه الغاف والشغراف»، كما يقول مثلنا المحلي.

فاتهموه بالزندقة والإلحاد، وأحرقوا كُتبه في الميادين، وحاولوا مع سلطان المغرب ليُسلّمه، فلم يقبل، حتى توفي وأتى السلطان أحمد، والذي كان على وفاق مع بني الأحمر، فسجن لسان الدين، بتحريض من وزيره سليمان بن داوود، والذي خشي بدوره على منصبه من ابن الخطيب، وأتى ابن زمرّك في وفد، سُمِح لهم بأن يدخلوا سجن ابن الخطيب ويقتلوه خنقاً، ودفنوه تلك الليلة، ثم دفعهم الحقد الغريب، لإخراجه من قبره في اليوم التالي، ليحرقوا جُثّته قبل أن يدفنوه من جديد!

«إنّ ما تفعله القوة يدور في دائرة»، هكذا تقول قبائل الهنود الحمر، فدارت الدائرة بابن زمرّك، والذي وصل به الأمر أن ملأ جدران قصر الحمراء بأشعاره، فسعى به من طمع بمنصبه الذي ورثه من ابن الخطيب، فأوغر صدر أمير غرناطة، فأرسل له من يقتله وأولاده في مجلسه، وهكذا أشغل هؤلاء غرناطة عمّا يكتنفها من مخاطر بحروبهم الشخصية، حتى أتاها العدو، وقد كُسِرَت من الداخل!

الصراع الخفي على المناصب لا يتوقف، والنفس البشرية ضعيفة للغاية أمام الألقاب الرفيعة، وما تحمله من مزايا ومنافع ومكانة اجتماعية، وكثيراً ما نُحِرَت الإنسانية، وشُوِّهَت تعاليم الدين السامية، على دروب التنافس على المناصب، والتي تُسْتَغَلّ فيها كل الأدوات الممكنة لإيذاء المنافسين، أو تشويه من يعتلون تلك المناصب أصلاً، فتوضع مجاهر وعدسات مُكبِّرة على الهفوات التي لا يسلم منها إنسان، ثم تُعلَّق المشانق، ويمتلئ فضاء منصات التواصل الاجتماعي بكمٍ هائل ممن يدق طبولَ حربٍ ليست في مكانها ولا أوانها!

إنّ استخدام القضايا العظيمة والتباكي على الدين المغدور، أو العزف على وتر القضايا الوطنية من أجل إيذاء الآخرين، طمعاً في مناصبهم أو رغبة في تشويه صورهم، دون سبب حقيقي، هي من الأمور التي يأنف منها الإنسان الشريف، المحب لدينه ووطنه، فكم من أحداثٍ غريبة خرجت في الآونة الأخيرة، تُرفَع فيها رايات بيضاء لمقاصد ليست كذلك للأسف.

وعَلَت بها أصوات مشحونة من أجل أخطاء غير مقصودة، لا يخلو منها إنسان، فأرادوا مسح كل حسنات ذاك الإنسان أو تلك، لمجرد ذلك الخطأ، حقاً، كم هي ناكرةٌ للجميل ذاكرة بعض البشر، فهي لا تستدعي على مسرحها سوى الذكريات السيئة، وتنفخ بها مهما كانت قليلة ضئيلة!

إن ترتيب الأولويات مطلبٌ حتمي طارئ، لا يجوز تأخيره، والوطن في أتون معارك إعلامية كثيرة، تستهدف أمنه وسُمعته ووحدته وتماسك نسيجه الاجتماعي، ومن يريد إشغالنا في افتعال معارك، لا خانة لها من الإعراب في هذا الوقت، لمجرد أن يتشفّى و«يبرّد قلبه» في شخصٍ لا يروق له، أو محاولة لإظهار نفسه وكأنه عنترة الزمان وحامي الأوطان الأوحد، فعليه أن يراجع نفسه.

فكل من هو على هذا التراب الطاهر، على ثغر من ثغور الوطن، ودور كل من فوقها ضروري، لا يجوز اختزاله أو الاستهانة به، ما دام ذلك في إطار أخلاقيات ديننا و«سلوم» أجدادنا، وما ربّانا عليه والدنا زايد، عليه رحمة الله.

لا نريد أن تتجه نِصالنا إلى صدور إخواننا وأخواتنا، وليس من العقل في شيء، أن نُقدِّم خدمة مجانية لأعدائنا في خضم هذه الحرب الإعلامية الشرسة التي يتم استهدافنا بها، لينفخوا في كيرها، ويدعموا بها مسعاهم الشيطاني الذي لم يتوقف لتفتيت لُحمة هذا الوطن العظيم، فمن يُحب وطنه، لا يُؤْثِر على مصلحته شيئاً، يرى رفعته لا مناصبه، وأمنه لا منافعه، و«بيته المتوحّد» لا مصالحه الضيّقة، عدوّنا في الخارج لا الداخل!

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

النصال المقلوبة النصال المقلوبة



GMT 21:31 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

كهرباء «إيلون ماسك»؟!

GMT 22:12 2024 الثلاثاء ,22 تشرين الأول / أكتوبر

لبنان على مفترق: السلام أو الحرب البديلة

GMT 00:51 2024 الأربعاء ,16 تشرين الأول / أكتوبر

مسألة مصطلحات

GMT 19:44 2024 السبت ,12 تشرين الأول / أكتوبر

هؤلاء الشيعة شركاء العدو الصهيوني في اذلال الشيعة!!

GMT 01:39 2024 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

شعوب الساحات

GMT 17:02 2020 الثلاثاء ,01 كانون الأول / ديسمبر

يجعلك هذا اليوم أكثر قدرة على إتخاذ قرارات مادية مناسبة

GMT 17:36 2019 الأحد ,11 آب / أغسطس

تجد نفسك أمام مشكلات مهنية مستجدة

GMT 17:31 2017 الثلاثاء ,18 إبريل / نيسان

نسرين قطروب تُثير الجدل بين جمهور سعد المجرد

GMT 15:57 2012 الأربعاء ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

القردة أيضًا تعاني من أزمة منتصف العمر

GMT 14:57 2016 الإثنين ,31 تشرين الأول / أكتوبر

سلمى حايك تبدو أصغر من سنواتها الخمسين في " LACMA"

GMT 14:59 2017 الإثنين ,23 تشرين الأول / أكتوبر

ليدي غاغا ترتدي بدلة بيضاء جذابة في حفلة خيرية

GMT 09:57 2020 الجمعة ,16 تشرين الأول / أكتوبر

النفط يهبط بفعل المخاوف من موجة كورونا ثانية

GMT 18:14 2019 الأربعاء ,01 أيار / مايو

لا تتورط في مشاكل الآخرين ولا تجازف

GMT 13:52 2013 الإثنين ,28 تشرين الأول / أكتوبر

صدور طبعة ثانية من رواية "إيميلات تالى الليل"

GMT 19:50 2013 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

مطعم يقدم برغر مجاني لـ320 ألف موظف أوقفهم البيت الأبيض

GMT 21:37 2015 الجمعة ,02 كانون الثاني / يناير

ياسمينا تفوز بثقة أعضاء لجنة تحكيم "أراب جوت تالنت"
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates