بقلم - عوض بن حاسوم الدرمكي
تشرفت الأيام القليلة الماضية، بحضور فعاليات المؤتمر العالمي لنُصرة القدس بقاهرة العروبة، مع لفيف كبير من الكُتّاب والإعلاميين والمثقفين، والذي تم تنظيمه بتعاون بين الأزهر الشريف، ومجلس حكماء المسلمين، وتحدّث فيه نخبة من السياسيين والمفكرين والعلماء والمهتمين بقضيتنا، التي كادت أن تُغيَّب عن الوجدان العربي.
«لأجلك يا مدينة الصلاة أصلي.. لأجلك يا بهيّة المساكن يا زهرة المدائن.. يا قدس يا مدينة الصلاة أصلي»، كلمات كانت تنساب مذ زمنٍ آفل بصوتٍ فيه من الشجن واللوعة ما فيه، تبث في أوصالنا شيئاً من حُزن مآذن تلك المدينة المكلومة، وبؤس كنائسها ومرارة فم معابدها، مرّت عقود كثيرة من الزمن، ولا يبدو لصباحها مِن مشرق، ولا لليلها من نهاية، شاب الصبر على أزقتها وسِككها، حتى لَفَظَ أنفاسه الأخيرة على أرصفتها العتيقة، وهي تنتظر الخلاص من قبضة جلادها، الذي لا يُقدّر قدسيتها، ولا يعرف لها مكانتها، ولا يرحم شيوخاً رُكّعاً، وأطفالاً رُضّعاً وقلوباً مكسورة، منذ زمن تناهى فيه الزمن.
وقف شيخ الأزهر، الإمام أحمد الطيب، وفي نبرة صوته غُصّةٌ لا تخفى، ليؤكد أننا أصحاب سلام لا دعاة حرب، لكنّه السلام العادل، الذي يؤكد الحق ويحفظ الكرامة، وليس سلام الجلّادين، وما يتبعه من قبول بالذل والخنوع، و«هزّ الرأس» بالموافقة دون اعتراض، ارتفع صوته الهادئ وهو يقول للحضور، الذين غصّت بهم القاعة المترامية الأطراف: «من العار أن نخاطب العدو بلغةٍ لا يفهمها، أو أن نبقى متخاذلين»، فالعدو أيّاً كان، وفي حالة أكثر جلاءً مع الصهيونية، لا يحترم إلا منطق القوة، ولا يمكن أن يتنازل عن غطرسته إلا أن رأى شوكة خصمه أقوى مِن أن يكسرها، فالحق إن لم تسنده قوة، تتناهبه أيدي اللصوص، وتنهشه أنياب الضباع.
«يا ليلة الإسراء، يا درب مَن مرّوا إلى السماء.. عيوننا إليكِ ترحل كل يوم»، هي مدينتنا وقبلتنا الأولى، ومسرى نبينا صلى الله عليه وسلم، وبها أمّ الأنبياء جميعاً، كدلالة على عظمتها، تكاد تنطق كل طوبةٍ في طرقاتها الملتوية بعروبتها، وتشم أَرَج ورائحة من بناها، وتسمع خطبة الفاروق عمر يؤمّن أهلها، وتصل لأذنيك صوت سنابك خيل صلاح الدين وفرسانه على أزقتها المرصوفة، مدينة بناها العرب اليبوسيون قبل 60 قرناً من الزمان، أي في الألف الرابعة قبل ميلاد المسيح عليه السلام، وقبل أن تظهر اليهودية بسبعةٍ وعشرين قرناً، تاريخٌ تحاول الصهيونية بوجهيها اليهودي والمسيحي، من خلال آلتها الإعلامية الجهنمية، طمسه وتحريفه، على أمل أن يغلب الكذب الليّن، الحق البيّن.
أتى صوت الرئيس الفلسطيني محمود عباس، ساخراً سخرية المرارة: «حصلنا على 750 قراراً بالجمعية العامة للأمم المتحدة منذ عام 1947 حتى يومنا هذا، وحصلنا على 86 قراراً من مجلس الأمن، ولم يُطبّق قرارٌ واحد من كل هذه القرارات»، هم يبيعوننا «حكي»، ويعلمون أنّ العرب لن يعدو فعلهم قراراتِ شجبٍ ومطالبات لا تتوقف، سيكون بانتظارها مئات الرفوف الفارغة، التي ستموت تحت ركام غبارها، إن الجلّاد لا يُغيّر قناعاته لمجرد أنّه غير ملابسه، ليبدو أمامك حمامة سلام، يحاربوننا بالوقت قبل «تطنيش» تنفيذ القرارات، يريدوننا أن ننسى، يُشغلوننا بالكثير من الملفات، ويبتزوننا في كثير من الزوايا، حتى تتلاشى تلك القضية من الوجدان العربي تماماً!
أطال كثيراً في كلمته، لأنّ ما بصدره أكبر من أن يكتمه أكثر، كان يرى القدس تغرق شيئاً فشيئاً في مستنقعات التآمر الإسرا-أميركي الآثم، وأتت كلمته تأكيداً لصرخة التحذير التي أطلقها لاحقاً في المؤتمر، وليد عساف رئيس هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، وهو يضع بالأرقام، ومن خلال الخرائط التوضيحية، كيف يعمل الاحتلال على تطويق القدس بسلسلة من المستعمرات، ونهجه الذي لم يتوقف لحظة في السعي المحموم لتغيير المدينة ديموغرافياً، واغتصاب مساكن وأراضي أهلها، وبناء مستوطنات للصهاينة المحتلين، صهاينة لا تعرفهم الأرض، ولم تألفهم نسماتها، شُذّاذٌ آتون من مجاهل روسيا وشرق أوروبا البائس، وأكواخ إثيوبيا وسهول الأرجنتين!
خيّم صمتٌ رهيبٌ على القاعة، عندما سكت الرئيس الفلسطيني لفترة، وهو ينظر في وجوه الحضور، وكأنه يريد أن تستمع له قلوبهم قبل آذانهم، أراد أن يتناسوا الخطابيات التي عفا عليها الزمن، ومزايدات من لم تأتِ لنا مثالياته، إلا بمزيد من البؤس وضياع الأراضي، وتشريد الأسر الفلسطينية المحزونة، قال بصوت غارق في الرجاء «لا تتركونا لوحدنا»، ثم يلتفت في وجوه الحضور من جديد، ليتقدّم بطلبه إليهم كرئيس ومتحدّث باسم المرابطين في تلك الديار: «زيارة العرب والمسلمين للقدس، ليست تطبيعاً، بل نُصرةً لأهلها، نرجوكم ألا تتركونا لوحدنا، فإنّي أخاف ألا يبقى من القدس إلا الحجارة فقط»، أراد أن يقطع الطريق على أبطال الورق وفرسان الخطابات، فأضاف: «إنّ زيارة السجين ليست تطبيعاً مع السجان»!
سيثور عليه كثيرون، وسيعارض طرحه ثلة من النخب الذي يضعون قدماً على أخرى، وهم يرفلون في نعمة من العيش، لكنّ الزيارة، وكما طلبها، ستكون فاتحة خير كثير للمرابطين هناك، يتحسّس البعض بأنه لا يقبل أن يرى ختم حكومة إسرائيل على جوازه لو زار قدس العرب والمسلمين، ولو سألته ما البديل، لما خرج عن ذلك الحل، والذي كأنه في متناولنا، ولا يحتاج سوى أن نضغط زرّاً في جهاز «ريموت كونترول» لينقذ البلاد والعباد: التحرير!
إنّ انتظار شيء مختلف لمعطيات متشابهة، هو نوع من الجنون، فإخواننا هناك في حالٍ يرثى له، ولو رأوا أفواجاً من إخوانهم العرب والمسلمين يأتونهم دوماً للصلاة في الأقصى، فإنّ ذلك من شأنه أن يشد عزائمهم، وأن يقوّي صمودهم، وأن ينعش اقتصادهم، وأن يتيقنوا بأنّ قضيتهم لم تدفنها رياح النسيان، لا يكفي أن نعتبر عام 2018 عاماً للقدس، فما لم تتبعه خطوات عملية، وإلا فلن تختلف تلك عن غيرها من الشعارات طيبة المقصد، لكنها الـ «ميتة سريرياً»!