من جميل ما يُروى عن سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قوله: «ليس كل ما يُعْرَف يُقال، وليس كل ما يُقال حَضَرَ أهلُه، وليس كل ما حَضَرَ أهلُهُ حان وقته، وليس كل ما حان وقته صَحَّ قوله».
بدايةً، وقبل أن أتوسّع في الحديث في ضوء هذه المقولة الرائعة، يهمني التأكيد على حقيقة لا بد من بيانها، والاتفاق عليها، حتى لا يُساء فَهْمٌ أو يُشوَّه معنى فكرة، فحب الوطن متأصلٌ في نفوس أبنائه، وخلال السنوات القليلة المنصرمة، والتي حفلت بالكثير من الأحداث والتحديات.
رأينا جميعاً مقدار حب أهل الإمارات لبلادهم، وحرصهم على أمنها، ووقوفهم غير المشروط خلف ولاة أمرهم، هذا الأمر هو أهم بكثير من كل المنجزات المادية، فالإنسان هو عماد أي وطن، وأساس كل مدنية، فإنْ صَلُحَ اشتد عود الوطن، وأينعت أوراقه، وإنْ خَبُثَ تردى وطنه إلى عالم الفشل!
أبناء الإمارات أوفياء لبلادهم ،كما ورثوا ذاك من آبائهم وأجدادهم، وكما سيورّثون هذا لأبنائهم وأحفادهم بإذنه تعالى، وهذا الحب والوفاء والحرص، ليس محل نقاش، ولا مدار مساومة أو موضع تشكيك، فتماسك اللُّحْمة الوطنية وتناغم النسيج المجتمعي للدولة، أمرٌ يُثلِج الصدور، ونحمد الله عليه، ونغبط أنفسنا به.
وما دامت القلوب متفقة، فإنّ البناء متماسك، وما دام في نفوسنا مساحات لتقبّل اختلاف وجهات النظر التي لا تؤثر في سلامة الوطن وأمنه، فإننا بخير، فالاتفاق التام في الآراء مستحيل، والتـــماثل الكامل للفهم غير متوقع، والمهم أن تتسع قلوبنا لكي تعذر إخواننا إنْ أخطؤوا، ونتبيّن الأمور قبل أن نُفصِح عن بعض الوقائع التي يكون التروّي فيها هو الأجدر من المسارعة بها!
من المعلوم أنّ شريعتنا الغرّاء، جاءت لتحقيق المصالح، وتعطيل أو تقليل المفاسد، فإن وُجِدَتْ مصلحتان، أُخِذَ بالأعلى مصلحة منهما، وإنْ بانت مَفْسَدَتان، دُفِعت الكبرى لِعظم ضررها، وكما تُقرّر القاعدة الفقهية الشهيرة، فإنّ درء المفاسِد مُقدَّمٌ على جلب المصالح.
وفي الحديث المُتّفق عليه لنبينا صلى الله عليه وسلم، مع مُعاذ، ما يُوضّح هذا المبدأ، عندما قال له: «حَقُّ الله على العباد، أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحَقُّ العبادِ على الله، أنْ لا يُعَذِّبَ من لا يشرك به شيئاً»، فقال معاذ رضي الله عنه: أفلا أُبَشِّر الناس؟.
كانت معلومةً عظيمة وبشارة كبيرة، ورأى معاذ أنّ من المهم أن يُفرّح الناسَ بهذا الأمر الذي لا يسعه كتمانه، فكان رده صلى الله عليه وسلم خلاف ذلك، عندما قال «لا تُبَشِّرهُمْ فَيَتّكِلُوا»، فمعلومة كتلك، ستجعل الناس أو كثيراً منهم يتراخون عن العبادات، ويتوانون عن الكثير من أعمال الخير والتراحم والتعاون.
ليس كل ما يُعرَف يقال، وقد قالها الإمام الشاطبي من قبل: «ليس كل علمٍ يُبَث ويُنْشَر، وإنْ كان حقاً»، فكيف إذا كانت تلك المعلومة معلومة سوء، وليست في محل القطع ولا إثبات لها بعد، فشرّها هو الأقرب، وفائدتها تكاد تكون غائبة تماماً، ويزداد الضرر، عندما يأتي نقل تلك المعلومات المسيئة من شخصيات إعلامية معروفة ولها جماهيريتها الكبيرة.
فيحطب خلفهم كل من كان ينتظر فرصة للإساءة للبلد، وللأسف، فإنّ الإعلام حالياً أصبح فضاءً منفلت الضوابط، بعد تفشّي منصات التواصل الاجتماعي، والتي جعلت بمقدور أيٍ كان، أن يقول ما يشاء، ويفتري ما يُريد، ثم يختبئ خلف شاشة واسم مستعار!
نحن في وسط معركة إعلامية كبيرة، يبحث فيها خصومنا عن أتفه الأمور لوضعها تحت مجهر مكبّر بملايين المرات، من أجل الإساءة لدولتنا، فنظام قطر العميل، لا يتورّع عن اختلاق الأكاذيب، واختراع القصص لمحاولة التشهير بنا، وسيّدتهم جماعة الإخوان وتنظيمها السرطاني، أقاموا بأموال قطر عشرات المواقع.
وغرسوا آلاف الحسابات الوهمية التي لا هدف لها إلا مهاجمة الإمارات وقيادتها، التي حطّمت مشروعهم الخائب من أساسه الهش، فلم يعد من المقبول أن يتبرّع البعض منّا بحسن نيّة، ويُقدّم لهؤلاء هدية جاهزة للتشهير بنا وبشبابٍ ذهبوا في مهمّةٍ وطنية!
الأمور إن وُجِدَ بها ما يدعو للتدخل، لا تُطْرَح هكذا بلامبالاة أمام الجميع، والاتّكاء على قضية المصارحة والشفافية، لا تكون بهذه الطريقة، إذ لا بد أن يتم وَزْن العواقب قبل الإقدام على طرح معلومة أو رأي فيه لَبْسٌ أو اتهام، فإصلاح الخلل لا يَحْدُث بخلق خلل أكبر من الأول.
فكيف والأمر لا يعدو أن يكون معلومةً قد تكون غير صحيحة، وقيلت في موقف انفعالي، حينها يكون ذِكْرُها تشهيراً لا معنى له، فالحلول لمواضع الإشكال، لن يأتي بها مشاهد والتلفاز أو مُغرّدو و«مُرَتْوِتو» تويتر، فرُبّ كلمةٍ غير صائبة، استشرت بين الناس استشراء الوباء، وكم هم أولئك الذين يبحثون عن السقطات أو الشُبَه، لكي ينفخوا في نارها، ما دامت ستسيء لخصمهم الذي يحاربونه ليل نهار.
إنّ الحلول لها منهجيات خاصة، وإدارة الأزمات لها قواعد ثابتة، ومناقشة الإخفاقات تتم بين مختصين بأعصاب هادئة غير منفعلة، خلف أبواب مغلقة، وليس «على البحري»، وحُبُّ الوطن والحُرقة على سُمعته، لا تعني أن يكون ذلك بفتح جبهات هجوم عليه من خصومه، فدَرْءُ تلك المفسدة، مُقدَّمٌ على ما سواها، والله من وراء القصد.