بقلم - عوض بن حاسوم الدرمكي
من المنقولات المأثورة للفيلسوف والسياسي الروماني القديم شيشيرو، قوله:«ألا تعرف شيئاً عمّا حصل قبل ولادتك، يعني أن تبقى طفلاً للأبد»، فمن لا يتعلّم مما جرى لغيره، ستبقى السذاجة ممسكةً بخيوط حياته، وسيقع كثيراً حيث وقع مَن سبقه ممن لم يعتبر بمصيرهم، هذه الفكرة يُلخّصها بشكل أدق، الرجل الذي أمر بإلقاء القنبلتين النوويتين على هيروشيما وناغازاكي، وأشرف على نهاية الحرب العالمية الثانية، واستسلام ألمانيا النازية ودول المحور، ألا وهو الرئيس الأميركي الأسبق هاري ترومان، عندما قال جملة تستحق التوقف معها طويلاً، والتي تُفسّر لا إنسانية قرارات ذاك الإنسان وشِدّته: «لا يوجد جديد في العالم، سوى دروس التاريخ التي لم تتعلمها»!
من لا يتعلّم من التاريخ، سيُعلّمه التاريخ بالطريقة الـمُرّة، ومَن يختار من دروس التاريخ أو صفحاته ما يشتهي معرفته فقط، ستمسك بخناقه كل تلك الصفحات التي تعامى عنها، بل حتى أولئك الذين يقرؤونه لكنهم لا ينظرون للمواضع الصحيحة فيه، ولا ينتبهون لما بين الأسطر من كلام لم يُقَل، وحديث لم يُكتَب، سيعانون كثيراً، فالتاريخ لا يُعطي أجوبة شافية، إلا لأولئك الذين يعرفون أن يسألوا الأسئلة الصحيحة، ولن يفتح أبوابه المغلقة إلا لمن يعرف استخدام المفاتيح الصائبة، أمّا مجرّد الادعاء بالمعرفة، فلن يكون إلا كمن يظن أن كتاباً لتعليم السباحة سيُعلّمه السباحة فعلاً!
ربما لم تُعانِ أُمّة في مسيرة البشرية، كما عانى العرب عندما أوجدوا لأنفسهم تلك الدولة العظيمة مترامية الأطراف، ثم ما لبثت أن أصابها الوهن وتفكّكت عُراها وتمزقت لأشلاء عديدة، وكلما هبّت روحٌ جديدة في أوصالها لكي تقوم من جديد، لا تلبث طويلاً حتى تسقط بدورها، لأن العرب أكثروا من النظر للخارج، ولم ينتبهوا كثيراً للداخل، كانت صدورهم تحميها الدروع والسيوف الباترة للعدو القادم، لكن خاصرتهم كانت مكشوفة لخناجر الخونة من بينهم، فسقطوا مراراً، لأنهم لم يتعلموا، أو ربما لأنهم لا يريدون تصديق ما يحدث لهم من خيانات بأيدي عربية أو مسلمة صرفة!
بغداد لم يُسْقِطها هولاكو وجيوش التتار الجرّارة، ولكن أسقطتها خيانات الوزير ابن العلقمي، وطليطلة لم يتم احتلالها واستباحتها إلا بخيانة ذي النون وتحالفه مع ألفونسو السادس لإسقاطها ومنحها له، والناصر لم ينكسر في معركة الخندق ويقع من المسلمين أكثر من 50 ألف قتيل، لولا خيانة 300 من كبار الفرسان مع جنودهم، ولشبونة قدّمها بنو الأفطس أمراء بطليوس لألفونسو هديّةً، ليساعدهم في هزيمة يوسف بن تاشفين، الذي أنقذ الأندلس في معركة الزلاقة، أو كما يسميها الإسبان Batalla de Sagrajas، والمعتمد بن عباد راسل ألفونسو أيضاً، ومنحه العديد من الحصون وأراضي المسلمين، ليساعده أيضاً ضد المرابطين، ومحمد بن الأحمر، انضمّ لمجلس قشتالة الصليبي، وكان جيشه في مقدم جيوش فرناندو الثالث، التي أسقطت إشبيلية، ورفعت الصلبان على مساجدها، وابن هود باع في اتفاق سرّي قرطبة العظيمة للقشتاليين، لكي يعاونوه على خصمه شُعيب بن هلالة في مدينة لبلة، كانت الخيانة تنتقل كالهواء بينهم، والغدر يشربون كؤوسه مترعة كل صباحٍ ومساء، لم يكونوا أوفياء إلا للأعداء فقط، وهَمّ كل واحد حماية نفسه وكرسيّه دون اكتراث بما سيجري لغيره!
الخونة لا يهتمون بقادم الأيام، لأنهم يظنون أنهم يملكون من الفطنة والذكاء والدهاء، ما يستطيعون به التلوّن والاستمرار في لعبة التدافع هذه لبقيّة حياتهم، لذا، لم يكن غريباً أن تخرج كلمات الإمام ابن حزم قاسية، وهو يتحدث عنهم قائلاً: «والله لو علموا أن في عبادة الصلبان تمشية أمورهم لبادروا إليها، فنحن نراهم يستمدون النصارى فيمكنونهم من حرم المسلمين وأبنائهم، وربما أعطوهم المدن والقلاع طوعاً، فأخلوها من الإسلام وعمروها بالنواقيس»، وشاطره التشكّي منهم، الإمام أبو بكر بن العربي، بعد أن يئس من تنبيه المتناومين ممن لا يهتمون إلا بأنفسهم، فقال: «فغلبت الذنوب، ورجفت بالمعاصي القلوب، وصار كل أحدٍ من الناس ثعلباً يأوي إلى وِجاره، وإنْ رأى المكيدة بجاره، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون»!
الخونة وصغار العقول، ومن لا يهمّه ما يجرّه على غيره من مآسٍ ونكبات، ما زالوا بين ظهرانينا، تتغيّر الأسماء ولا تتغيّر الأفاعيل المشينة، ومَن لبس جُبّة بالأمس، لَبِسَ بشتاً هذا اليوم، ومن اعتمر الطيلسان في السابق منهم، أضحى يلبس البدلة المؤنّقة، لكن الملابس الجميلة لا تواري سوءة النفوس المنحرفة، فما فعله ابن العلقمي من جلب الأعداء لإسقاط بلاد المسلمين والعبث بها وقتل أهلها، حتى قيل إنّ من قُتِل ببغداد وحدها، كانوا أكثر من مليوني إنسان، يفعله علقمي سوريا بشار الأسد وزبانيته وأسياده الروس والمجوس، وما فعله ابن الأحمر من خيانات لإخوانه، والتحالف مع الأعداء لإسقاط بقية مدن الأندلس، ليخلو له الجو وحده، كما كان يظنّ، يفعله حالياً نافخ كير فتنة هذا القرن، حمد بن خليفة وأعوانه، والذي لم يترك بلداً عربياً دون أن يحاول شق لُحمته الداخلية، وبث نيران الفتنة والحروب الأهلية فيه!
إنّ الخونة لا ينصلح أمرهم، لأنّ ضميرهم الإنساني قد تم وأده منذ زمن بعيد، والمعاهدات والاتفاقيات معهم لا تعني شيئاً، لأنهم لا يملكون من الخُلُق ولا المروءة ولا الشرف ما يجعلهم يحترمون تعهداتهم، يقول أفلاطون: «الصالحون لا يحتاجون قوانين لكي يتصرفوا بمسؤولية، بينما الفاسدون سيجدون طُرُقاً كثيرة للتحايل والالتفاف حولها»، فالخائن لا يصلح له إلا البَتْر والاستئصال التام، أمّا حلول الشرفاء، فلا تنفع معهم، لأنهم لا يملكون الحد الأدنى من الشرف، هي دروس التاريخ القديمة، والتي نتمنى ألا تكون جديدة، لأننا لم نتعلمها فقط، فالجنون بعينه، أن تُحاول أن تُعطي العقرب فرصةً أخرى لكي تكون ودودة!