في أحد اللقاءات صدم غاري جونسون حاكم نيومكسيكو السابق الحضور الذين كانوا ينتظرون استمراراً في السخرية من «فقاعة» الصين وكونها منافسة لسيدة العالم وبلد الفرص والحرية والأحلام الولايات المتحدة الأميركية كما سبقه بذلك من متحدثين بقوله:
«أميركا بلد الحرية؟ نعرف أنّ هذه خرافة، يقبع حالياً مليونان من سكانها في السجون، بينما الصين والتي يمثل عدد سكانها أربعة أضعاف سكان أميركا يوجد قرابة مليون ونصف المليون فقط في السجون»!
المفكرون والاقتصاديون الأميركان تحديداً منقسمون بين مُحذّر من صراحة وقوة تهديد الصين لهم وبين من يراها مجرد فقاعة ستنفجر في أي لحظة، هذه اللحظة التي يتكلمون عنها لم تأتِ منذ عقود من السنوات، متغافلين عن حكمتين صينيتين قديمتين تمثلان مرتكزاً في الذهنية الصينية على تشابههما، إذ تقول الأولى:
«لا يهم كم يكون سيرك بطيئاً ما دمت لا تتوقف»، بينما تؤكد الثانية ذلك: «قليل من عدم الصبر يُفْسِد أعظم الخطط»، هم لا يراهنون على الجُهد فقط، بل الجُهد «المستمر» و«ثابت الوتيرة» و«في الاتجاه الصحيح»!
الأرقام تقول إنه في عام 2016 صدّرت الصين ما قيمته 2 تريليون دولار لدول العالم، ما يجعلها قبل أميركا وخلف دول الاتحاد الأوروبي، ركزوا معي: دول الاتحاد الأوروبي، لم تتفوق عليها إلا قارة بأكملها تقريباً، لكن كإنتاجية فالصين هي الأولى إذا أنتجت ما قيمته 21.3 تريليون دولار.
بينما الاتحاد الأوروبي 19.2 تريليون، علماً بأنّ 18% من صادراتها للولايات المتحدة وهو يمثل ما قيمته 365 مليار دولار، ولن أقول جديداً عندما أذكر بأنّه حسب تقرير لـ World Economic Forum فإن الصين ستصبح أكبر قوة اقتصادية في العالم بحلول 2030 وقد يحصل ذلك قبل ذلك التاريخ!
تؤمن الصين بالمنفعة المتبادلة في علاقاتها مع دول العالم دون فرض إملآت على القرار السيادي لتلك الدول كما تفعل أميركا وهذا أحد أسباب نجاحها وأُلفة الدول لها، إذ قامت بالاستثمار بكثافة في مشاريع البنية التحتية لعدد من الدول الأفريقية مقابل النفط ومنحت قرضاً بقيمة 25 مليار دولار لشركتي روسنفت وترانسنفت الروسيتين مقابل التزام بتصدير 300 ألف برميل يومياً للصين للعشرين عاماً القادمة و10 مليارات لشركة بتروبراس البرازيلية مقابل 200000 برميل يومياً.
وكثّفت من اتفاقيات التجارة التبادلية مع دول شرق آسيا والدول اللاتينية ما دعا حكومة أوباما للمسارعة بتوقيع اتفاقية الشراكة التجارية لدول المحيط الهادئ، وتم استثناء الصين منها وذلك في محاولة لإيقاف النمو المتسارع للهيمنة الاقتصادية الصينية، الغريب أن دونالد ترامب انسحب منها!
على جانب النجاحات الإنسانية المرتبطة بخطط التنمية الاقتصادية فإنّه عندما تفاخرت الأمم المتحدة «باستعباط» بأنها حققت هدفها بإخراج نصف من هم في فئة الفقر المدقع Extreme Poverty من سكان العالم فإنها تجاهلت عمداً أن الفضل بذلك يرجع للصين والتي مثّلت ثلاثة أرباع ذاك الرقم وهو ما يقارب 800 مليون شخص في الفترة من 1990 حتى 2005 .
حيث زاد دخل الفرد بمقدار 49 ضعفاً، وتشير التقديرات إلى أن الطبقة المتوسطة Middle Class في الصين ستصل مليار إنسان بحلول عام 2025 ما يشكل قوة شرائية غير مسبوقة، بينما الهند والتي يُطبّل لها الغرب باعتبارها تمثّل النموذج الديمقراطي الغربي ما زال 838 مليون إنسان بها فقراء، أي ثلثي السكان!
قد يتهم كثير من المفكرين الغربيين الصين بأنها متبنية للتقنيات لا مخترعة لها وأنها «تلطش» الأفكار ولا تولّدها، ولن ينفي ذلك أحد، لكن الأمور اختلفت وما زال هؤلاء «المتنّحين» على نفس طروحاتهم، فالصين بدأت في التحول سريعاً للريادة .
فيما يخص الابتكارات والتحوّل من النمو القائم على الاستثمار Investment-led Growth إلى النمو القائم على نماذج الابتكار Innovation-led Models Growth والذي سيتسبّب في إضافة 5.6 تريليونات دولار لناتجها المحلي بحلول عام 2030، كما أن تقريراً للبيت الأبيض في أكتوبر العام الماضي أشار إلى أنّ الصين سحبت البساط من تحت أقدام الولايات المتحدة كأكثر منتجي البحوث المتعمقة للذكاء الاصطناعي AI بدءاً من عام 2013 والهوة تتسع بين الدولتين باستمرار.
ويقول بيتر سينغر كبير الباحثين في التقنية والأمن القومي بمركز New America مُحذّراً: «القضية ليس كامتلاكنا لتقنية طائرات الشبح والسوفيت لا يملكونها، فالصين جعلت الذكاء الاصطناعي ركيزة مستقبل اقتصادها وقوتها العسكرية»، على مسار موازٍ تذكر صحيفة الغارديان البريطانية أنّه رغم اعتماد الصين كثيراً على طاقة الفحم الرخيصة والملّوثة إلا أن البلد أصبحت أكثر اعتماداً حالياً على النفط الأحفوري وحسب تقرير الأمم المتحدة لعام 2016 فالصين حالياً هي أكبر مستثمر في الطاقة المتجددة عالمياً، حيث تستثمر أكثر مما تستثمره الولايات المتحدة وأوروبا مجتمعتين !
من المهم أن نذكر أيضاً أنّ الصين هي أكبر مالك أجنبي لسندات لخزانة الأمريكية، إذ تمتلك ما قيمته 1.14 تريليون دولار منها وهوما يُمثّل 29% من الدين العام الأمريكي، وكانت تهدف بذلك تدعيم قيمة الدولار الذي تعزز تنافسيتها بثباته، إذ قامت كثيراً بتخفيض قيمة اليوان الصيني مقابل الدولار لتُبقي على أسعار صادراتها عالية التنافسية.
وكلما حاولت الحكومة الأمريكية الضغط على الصين لرفع قيمة اليوان تقوم هي بدورها بتهديد الأمريكان بأنها ستبيع حصتها من سندات الخزانة ما سيجر كارثة كبرى للإقتصاد الأمريكي بانهيار أسعار الدولار !
الأوراق لكبح تفوق الصين ليست كثيرة أمام الأمريكان، فلو حاولوا وضع تعرفة أثقل على الواردات الصينية لأمريكا سيتم الإضرار بها ببيع سندات الخزينة، ومحاولة لي ذراع الصين في الخلاف على جزر جنوب بحر الصين بوجود حلفاء مثل اليابان ودول النمور الآسيوية لا يعني الكثير.
لأن هذه الدول تعتمد في اقتصادها على الصين أكثر بكثير من اعتمادها على أمريكا، والمصيبة الأكبر أن نسبة كبيرة للغاية من الشركات الأمريكية تعتمد في نموها على قوة الاقتصاد الصيني، ذاك ما يفسر مقالنا السابق والذي دعى الأمريكان لرمي ورقة داعش أو ابن حفصون العصر!