عندما لاحظت ممالك أوروبا أنّ عبدالرحمن الناصر أعاد ترتيب أوراق البيت الأندلسي الممزّق والذي كاد يسقط مبكراً لولا هذا الشاب الذي لم يتجاوز الحادية والعشرين سنة من عمره عندما أمسك بدفّة حُكم قرطبة.
وسقطت أمامه جيوش قشتالة ونافار وليون وجليقية في معارك لا تُحصى، لم يجدوا حلاً أنجع وأشد فتكاً من ضرب الدولة العربية المسلمة بثائر منها يُدعى عمر بن حفصون، رفع كعادة الدجّالين وطُلّاب السلطة شعارات العدالة ونصرة الضعفاء وحماية الدين، فأمدته ممالك أوروبا النصرانية بالسلاح والأموال وكذلك فعل حلفاؤهم أسلاف إيران من حُكّام الدولة العبيدية، فأرهق الأندلس وعاث بها فساداً طيلة أربعين سنة !
تتغيّر التواريخ ولا تختلف الأساليب كثيراً، فأمثال ابن حفصون يتم استنساخهم على الدوام من قِبل أعداء العرب، والشعارات التي يتم رفعها هي هي لا تتبدّل، فكلُّ أفّاكٍ أراد سوءاً بالعرب والمسلمين تملّق للبسطاء بعبارات مشحونة بالآيات الكريمة والأحاديث الشريفة شحناً، ولأن العرب كبقية شعوب الشرق عاطفيون فإنّه يسهل التأثير عليهم وإنْ اكتشفوا الكِذْبَة يكون الوقت متأخراً.
الأمر الجديد الذي حدث هذه المرة في استنساخ ابن حفصون القرن الحادي والعشرين هو أنّه تم رسم خارطة لعب أكبر بكثير من الدول العربية، خارطة تشمل الدول المناوئة للغرب من المعسكر الشرقي والذي يضم الصين وروسيا تحديداً، بل تم إدراج دولهم ذاتها على فترات معينة لأسباب سنذكرها، ابن حفصون العصر هو تنظيم داعش الإرهابي.
الغرب بقيادة أميركا يُعاني بشدة اقتصادياً، العولمة ومؤسساتها وسياساتها لم تَفِ بطمع النخبة، وتحويل بقية العالم إلى صنفين فقط: مورّد لثرواته وموارده للغرب بأبخس الأثمان ومستهلك لما يتم معالجته من تلك الموارد بأغلى الأسعار، كل هذا لم يكن كافياً، فمعدلات النمو ما زالت تترنّح والكثير من دول أوروبا ما زالت تعاني من آثار الأزمة الإقتصادية قبل تسع سنوات تقريباً، بينما البعبع الصيني يحقق معدلات نمو مرعبة، ورغم أنّ معدلات نمو اقتصاد الصين حالياً أقل من السابق لكنها تبقى أكبر من نمو الغرب وأشد تماسكاً.
والتنبؤات جميعها تؤكد أنّ الصين ستتفوق على الولايات المتحدة كأكبر اقتصاد في العالم قبل حلول عام 2030، لذا كان من الضروري «فَرْمَلة» هذا القطار السريع بأية وسيلة، شريطة أن لا يظهر الغرب في الصورة، هناك حمقى كُثُر مِن المنتسبين لنا مستعدون لـ«دق الصدر» والتكفّل بالمهمة من عصابات القاعدة والإخوان وداعش !
بعد سقوط مشروع الإخوان المسلمين وحكومة أوباما-هيلاري وإفشال مشروع الفوضى الخلّاقة أو على الأقل تحجيم نطاقه الجغرافي قبل أن يحرق أخضر بلدان العرب ويابسها، تمت صناعة داعش من قبل المخابرات الأمريكية وساعدته سريعاً من خلال أذنابها في العراق وسوريا من السيطرة بصورة غير معقولة في سرعتها وسهولتها على شريط النفط هناك، ثم بقدرة قادر خرجت الجماعة الإرهابية في سيناء وليبيا وتم القبض على عناصر كثيرة لهم في المملكة العربية السعودية وأغلب دول الخليج ما عدا قطر، طبعاً سأدع ذكر السبب لمخيلتك عزيزي القاري.
فأنت أذكى مِن أن تغيب عنك الحقيقة البسيطة، الدولة الأخرى التي لم تمسّها داعش كانت إيران، وإيران ستكون السيناريو الثالث إنْ أخفقت داعش كما أخفق الإخوان لتفتيت الدول العربية وتدمير بنيتها التحتية والتسبب في رفع أسعار الطاقة للإضرار بالصين بأكبر قدر ممكن، فهي لا تملك مصادر نفطية بديلة كما تملك أميركا في حقول النفط الصخري الكثيرة لديها.
وحتى لا يستبعد البعض هذا الطرح لضرب داعش للعمق الأوروبي وبعض المدن الأميركية فإنّه من المهم التذكير بأنّ الشعوب الأوروبية والشعب الأميركي شعوب ضد الحروب التي خَبَرَتْها وقاست أهوالها في حربين عالميتين مدمرتين، فهي تميل للتعايش واحترام الحريات وعدم التدخل في شؤون الغير، لذا كان لا بد من تغيير قناعات هذه الشعوب.
وهي قناعات لا ينفع معها النقاش لأن ما تقوم عليه افتراضات الحرب هشة للغاية ويسهل دحضها، لذا كان لابد من جعلها تُقاسي الألم وتواجه الموت في شوارعها حتى تقف مع حكوماتها النزقة لاستهداف عدو زئبقي، فكانت هجمات لندن ومذبحة سان برناردينيو وجريمة شارلي هيبدو وتفجيرات مارسيليا وبرشلونة لتزرع الخوف في قلب هذه الشعوب وبأنها مستهدفة إن لم يتم القضاء على ذلك العدو!
عبث داعش وأجندتها التخريبية لذات التخريب يُراد لها أن تُسقِط كل مشاريع التنمية للدول العربية، فالمطلوب إعادة المنطقة لفترة ما قبل النفط من التخلف والضعف والفرقة، وأن ترحل الأموال العربية وتعود أموال المستثمرين الغربيين لأسواق الغرب.
والتي لم تكن آخر محاولاتها القائمة السوداء للملاذات الضريبية والتي وضعها الاتحاد الأوروبي والتي أدرجت الإمارات وكوريا الجنوبية ضمن قائمتها المختصرة، متغافلين أنّ التريليونات تذهب وتُخبأ في مصارف الأُفشور التي يديرها ويحميها زبانية الاتحاد الأوروبي وسادة البيت الأبيض !
أجندة داعش كما يراد لها ستقوم باستنزاف الصين وضربها من الداخل، ففي دراسة نشرها مكتب الدراسات New America عام 2016 تم الكشف عن وجود 114 عضواً في تنظيم داعش الإرهابي من إقليم زينغيانغ الصيني والذين قاموا بمذبحة في عاصمة إقليم أورومكي ذهب ضحيتها 43 قتيلاً.
والعدد سيتزايد باستغلال مأساة شعب الإيغور وما يتعرض له من اضطهاد لتجنيد عدد أكبر على الدوام، المهم أن تتسع رقعة الحرب وأن يتم إسقاط أكبر قدر من الخصوم المحتملين بأيد ليست غربية.
لا صداقات في سياسة الغرب، العقلية الاستعمارية هي الثابت الوحيد لدى ساستهم، ولا يُقبَل لديهم ظهور قوى أخرى سواهم، حتى لو كانت القوى اقتصادية فقط، فمن ملك المال اليوم سيملك القوة غداً، لذا لا بد في عُرفهم من استعمال القوة لإسقاط من يمكن له يوماً أن يملك القوة، المطلوب فقط أن تجعل أحمقاً سواك يُحارب نيابة عنك تلك المعارك في كل زمان ومكان: ابن حفصون!