بقلم - عوض بن حاسوم الدرمكي
نعلم جيداً أن الدنيا لا تتوقف لغياب أحد، لكن ليس كل غياب بالإمكان نسيانه فضلاً عن ملئه، بعض البشر غيابه يستعصي على كل مفردات التصبر ويمتنع على كل محاولات التناسي، لأنهم أكبر من أن يكونوا مجرد محطات في هذه الحياة، وأعظم من كل من تحتويه التفاصيل، وأصعب على كل مساعي التأطير، وجودهم هو الحياة بذاتها وغيابهم أشبه بدق إسفين في نعش حياة كل من عرفهم، قريباً كان ذاك العارف أو بعيداً!
الموت لا يترك أحداً، والرحيل قدر لا محيص منه، لكن على كثرة ما اعترض ذاك على البشر، فما زالوا على قدرٍ عالٍ من الهشاشة كلما حل بساحتهم، ويفدح الأمر أكثر كلما كان الراحل شخصاً استثنائياً قد لا يجود الزمان بأمثاله، تماماً كما كان رحيل الشيخ حمدان بن راشد آل مكتوم مفاجئاً، صادماً، استعصت عن وصفه المفردات، فبعض الوجع تختنق به الكلمات.
كأنْ لم يَمُت حيٌّ سواك ولم تَقُم
على أحدٍ.. إلا عليك النوائحُ
وما كنتُ أدري ما فـواضِل كفّه
على الناسِ حتى غيّبتْهُ الصفائحُ
يروى في الأثر أن ألسنة الخلْق أقلام الحق، فمن اشتهر ذكره بالخير وعلا خبره بمكارم الأخلاق فهو بها جدير وهي به أولى، فلم يكن، رحمه الله، من الباحثين عن الأضواء أو من تستثيرهم الشهرة، فأتته الشهرة والأضواء في حياته دون سعي منه، وجأرت الأصوات لاهجةً بمديحه والثناء عليه بعد رحيله، ولا أذكر منذ رحيل الشيخ زايد، عليه رحمة الله، رأيت مثل هذا الفقد في عيون الناس، فبين مُقلةٍ دامعة، وصوت مخنوق، وصمت مطبق عرفنا أي رجل كان ذاك الـ«حمدان».
ربما هو أوضح من يعرفنا بمعنى صدقة السر وبذاك الذي لا تعرف شماله ما أنفقت يمينه، فكان حقيقاً بأن يُظله الله في ظلّه يوم لا ظِلّ إلا ظِلّه، فأعماله الخيرة قد عرفها البعيد قبل القريب، ومحافظته على الصلوات جماعة، وأولها الفجر أمر لم يكن يتساهل فيه، بل يذكر عنه من يعرفه أنه حرصاً منه على دين الناس وسلامة صيامهم وتوقيت فطرهم، لم يكن يُطلق مدفع إفطار رمضان في دبي كل يوم طيلة هذه السنين، إلا بأمره، رحمه الله.
إنْ تحدّثنا عن أياديه البيضاء فلن تكفينا صفحات الدنيا، وأعظم ما بها أنّ أغلبها كان سِرّاً ولم يُعرَف إلا بعد وفاته، فتمام عقل الإنسان وكمال بصيرته هي بأن يعرف لأي حياة يزرع وفي أي حياة ينتظر حصاد ذاك الزرع الطيب، ولا أظن القارة الأفريقية تحديداً ستنسى أيادي حمدان بن راشد البيضاء، وسعيه الدؤوب لسنين طويلة في أن يرسم لها ويساعد أبناءها لبناء مستقبل أجمل، فمن بناء المساكن والمستشفيات وحفر الآبار إلى إقامة أكثر من 40 مدرسة متقدمة في 22 دولة أفريقية ضمن مشروع تعليمي يعتبر أهم مشروع تعليمي خيري في القارة باعتراف الاتحاد الأفريقي، بالإضافة إلى تمويل مشاريع حصاد المحاصيل كمحاصيل القمح في السودان وغيرها، فكم كبدٍ رطبة له فيها أجر، إن شاء الله.
لم يكن حمدان بن راشد، عليه رحمة الله، مجرد قيادي أدار وزارة المالية منذ تأسيس الاتحاد إلى وقت وفاته، بل كان قدوةً حسنة وشخصية ملهمة وعقلية متزنة، في كل المنعطفات الحرجة أو المقلقة التي مرّت بها بلادنا أو المنطقة كان هدوؤه واتزانه راسخاً لا تذبذبه الضغوطات ولا تؤثر بقناعاته الأصوات العالية، لذا كان في كل لقاء تسمعه له، تشعر بأنه، دون وعي منك، تدخل في حالة طمأنينة وهدوء غريبة كلما تحدث بصوته الرخيم الواثق، هي هبات من الله يختص بها من يشاء، وأمور لا تشترى.
يرحل عنّا، رحمه الله، جسداً لكنه سيبقى فينا ما دمنا أحياء، هو أسوة حسنة حقّها علينا أن نتشبّه بها، وحقّها على أبنائها تحديداً أن يكونوا امتداداً له، وأن لا يتغيّر مسارٌ اختطّه ولا يُبَدّل نهجٌ ارتضاه وعمل على تنفيذه طيلة حياته، وعزاؤنا لأنفسنا في غيابه، وعزاؤنا لدبي مُفتَقد، فألم دبي كان أكبر من البوح، ولا أقسى من صمت المكلوم، فالأحزان الصغيرة ثرثارة، أمّا عظيمها فأبكم.