بقلم - عوض بن حاسوم الدرمكي
إثر كل امتحان، هناك طالب يتمنى لو أُعيد له وهو يعرف أسئلته، وبعد كل اجتماع هناك شخص صامت يتخيّل أنه ناقش ذاك وفنّد حديث ذاك، وبعد كل منتج يدخل الأسواق هناك شركات تتمنى لو كانت هي من خرجت به، لا خطأ في الأمنيات ولا عيب من الحُلم، لكن الأمنية التي لا تعمل من أجلها، والحلم الذي لا يجعلك تستميت لتحقيقه لا تعدو أن تكون مُسكّناً توجد به العُذر لنفسك بينما يتجاوزك البقية!
الحياة صراع لا يتوقف، والسباق للقمة ملتهب لا يسمح بالتقاط الأنفاس، والكبار معروفون على المشهد العالمي، وهم من يتصدرونه، وهم من يُرجَّح أن لا تخلو منهم منصّته في المستقبل أيضاً ما لم تحدث مُعجزة، لكن وقت المعجزات قد انتهى، والمنجز الحضاري يحتاج جهداً جباراً، وتغيير الأرقام وإيجاد موطئ قدم بين دول النخبة يتطلب الكثير الكثير، وأول تلك المتطلبات أن لا تجد فرصة لالتقاط أنفاسك أبداً.
نشرت «اليونسكو» قبل مدة تقريراً لعام 2020 عن إنفاق الدول على البحوث والتطوير «R&D» والذي وصل رقماً غير مسبوق، إذ تجاوز 1.7 تريليون دولار، والملاحظ أنّ 80 % من هذا الرقم، قامت به 10 دول فقط، وهي الدول التي عقدت العزم على ريادة المستقبل، وهي الدول التي تتصدر المشهد الحالي، ولا يبدو أنها تقبل بالتفريط في مكانتها، فالبقاء في صدر المنافسة هو أمل البقاء على قيد الحياة المثلى.
هذه القائمة تتصدّرها كبيرة العالم: الولايات المتحدة الأمريكية، بإنفاق بلغ 476 مليار دولار، تليها الصين 372 ملياراً، فاليابان 170 ملياراً، ثم ألمانيا 110 مليارات، والمحزن أنّه لا توجد أي دولة عربية ضمن كبار المنفقين على الاستثمار في المستقبل، أمّا إن أُخِذ في الاعتبار النسبة من الناتج المحلي، فإنّ إسرائيل، الضئيلة الحجم والقليلة السكّان، تأتي في الصدارة بنسبة 4.95 %، حسب تقييمات البنك الدولي عام 2018 وينصب اهتمامها البحثي والتطويري على تطوير قطاع التقنيات، وهو القطاع ذاته الذي تشاركها الاهتمام به وصيفتها كوريا الجنوبية، لأنه مرتكز التفوّق النوعي، ومن جديد، وللأسف، لا توجد دولة عربية في العشرين الأوائل!
إنّ الاستثمار في البحوث والتطوير هو عصب الحياة للمؤسسات والدول، فمن خلاله تخرج للنور منتجات جديدة، أو خدمات غير مسبوقة، أو تُقدَّم بطريقة غير مسبوقة للبقاء بأقدام راسخة في السوق، أو للحصول على حصص سوقية متزايدة أو بأقل الأحوال ثابتة، هذا التطور في القطاع الخاص يُلقي بظلاله سريعاً وبشكل جلي على معدلات نمو الناتج المحلي للبلد، بل والأهم من ذلك، على إيجاد طوق نجاة للدول بعد الكارثة الاقتصادية وتبعاتها التي تسبّبت بها جائحة «كورونا».
تقول كريستين لاغارد، رئيسة البنك المركزي الأوروبي: «ونحن نتعافى من جائحة «كورونا» فإنّ البحوث والتطوير ستلعب دوراً محورياً لدعم نمو القطاع الخاص وخلق فرص عمل»، فعشرات إن لم تكن مئات الملايين من البشر، فقدت وظائفها وتعاني عائلاتها حالياً في نضالها من أجل الحياة، ووحده الابتكار القادم من البحوث المضنية ما سيخلق غداً ملهماً ويفتح أبواب معيشة لمن كاد أن يكتم أنفاسه اليأس.
المهمة للعرب صعبة للغاية، لكنها ليست مستحيلة إن وُجِدت الرغبة، وقبل الرغبة، الصدق في معرفة موقعنا الفعلي دون ادّعاء يُؤخر أكثر مما يُقدِّم، فقائمة شركات التقنية العالمية اللامعة تخلو من أية شركة عربية، وكذلك شركات الصيدلة والصناعات الدوائية والتي ستحقق مبيعات فلكية من خلال لقاحات الجائحة الحالية، وإن نظرة على قائمة «Fortune 500» لأكبر الشركات العالمية، توضح لنا عدم وجود أي شركة عربية من بينها، كما أن قائمة أفضل الجامعات العالمية، لا نجد فيها جامعة عربية إلا في المركز 186، وهي جامعة الملك عبد العزيز، الأمر الذي يكشف صعوبة وضعنا وكمية الجهد الذي نحتاجه للحاق بالنخبة.
إنّ الهوة بين الدول المتقدمة وبقية العالم تتّسع بشكل متسارع نتيجة تلك القفزات في مجال التقنية على وجه الخصوص، وهو ما يعني أن المستقبل سيبقى لهم إنْ لم نُغيِّر من طريقة تعاطينا مع الأمور، فالذي يريد اللحاق بالكبار لا بد أن يُضاعف السرعة لاختصار المراحل، ليس مضاعفة سرعته هو ولكن مضاعفة السرعة التي يسير عليها الكبار أنفسهم لمجاراتهم، هو أمر يفترض أن يجعلنا لا ننام الليل أبداً، بل نبقى في عمل لا تخبو جذوته، وسيرٍ لا يتوقّف لحظة، لكنه تعب سنجني ثماره كما نشتهي، فعند الصباح يحمد الراحلون السُرى.