بقلم - عوض بن حاسوم الدرمكي
في طريقه إلى الكوفة مع ابنه وغلامه، وَجَدَ أبوالطيب المتنبي نفسه في كمينٍ بِطَريقٍ موحشٍ أمام رجل يُدعى فاتك بن أبي جهل الأسدي ومعه ثلاثين من بني عمومته، الذين خرجوا وهم يشتعلون غضباً بسبب قصيدةٍ هجا فيها المتنبي رجلاً منهم يُدعى «ضُبّة» قام بسرقة أمتعتهم هو وأُمّه عندما استظلوا بجدارهم وناموا، كان ذلك قبل سنين عِدّة وكان حريّاً به أن يُنسى فهو مجرد كلامُ غاضبٍ سُرِق كل ما لديه، لكن ما حدث أنّ المتنبي قطّعته السيوف هو وابنه وغلامه لأجل قصيدة!
العرب يملكون حميّة وذهنيّة تختلف عن أهل الغرب والشرق، ولديهم ذاكرة قد تنسى كل شيء إلا الشتم والوقيعة في الأعراض، وقصيدة الهجاء التي دبّجها المتنبي في «اللص» ضُبّة وأُمّه أثارت أبناء عمومتهم ولم يروا إلا سفك دم الشاتم ومَن معه أمرٌ يُمكن أن يمحو تلك الإهانة، ولو تتبعنا أوراق التاريخ فسنجد أمثال هذه القصة الكثير، بل كانت من أهم عوامل سقوط الدولة الأموية تحديداً والتي قامت على مادة العرب في جوهرها، فالصراعات التي اشتعلت بين القيسية والمضرية أودت بها في الشرق ثم تكررت القصة في الغرب بالأندلس وأسقطتها من جديد.
يقول زفر بن الحارث متوعداً مروان بن الحكم بعد معركة مرج راهط: وقد يَنْبِتُ المرعى على دِمَن الثرى وتبقى حزازاتُ النفوسِ كما هيا فحزازات النفوس وأحقادها ورغبتها في الثأر لا يمكن أن تزول، ومن يزرع الشوك لا يمكن أن يخرج حصاده إلا بمثل ما زَرَع، ومثلنا المحلي يقول: «ينسى الصافِع ولا ينسى المصفوع»، والمؤلم هذه الأيام أن الإساءة ليست فردية ولفردٍ واحد كما كانت من المتنبي لِضُبّة، ولكن انساقت فيها جموعٍ كبيرة ملأت مواقع التواصل بسخرية وغمز ولمز وطعن وقذف لشعوب كاملة أو شرائح كبيرة من تلك الشعوب، حتى أضحى واقعنا لا يسرّ إلا العدو لما يراه من تناحر الشعوب فيما بينها والسقوط الأخلاقي لدى فئات من مغرّديها وكُتّابها وإعلامييها.
«دعوها فإنها مُنتنة»، قالها سيد الخلق -صلى الله عليه وسلم- بعد أن خرج غاضباً لسماعه شخصاً ينادي: «يا للأنصار» وآخر يجيبه: «يا للمهاجرين» ولم يكن ثمّة شتائم، لكنّه عَلِمَ أنها باب فتنة إنْ فُتِح فلن يكون من السهل إغلاقه، فكيف لو سمع ما يدور الآن بين الإخوة، وكثيراً ما سألت نفسي: ماذا لو تمت ترجمة شتائمنا في بعضنا البعض لبقية شعوب العالم، فبأي نظرةٍ ستنظر الدنيا للعرب والمسلمين؟ ما الذي جعلنا ننحدر لهذا المستوى الذي لا يليق بنا ولا بأمّة امتدحها الله تعالى بقوله: «كنتم خير أُمّةٍ أُخْرِجَت للناس»، من فعلنا بنا ذلك ومن أركسنا لهذا القاع؟ بل ومن الذي جعلنا لا نحزن لما نفعل ولا نخجل مما نقول في حق إخواننا وما يقولونه في حقنا؟
الدول والأمم تمر بمراحل جزرٍ ومَدٍّ في العلاقات فيما بينها، وهذا أمر لا يمكن تغييره، لكن هذه النزاعات يحلّها الكبار، والملفات الشائكة والقضايا الملتهبة يُعالجها ولاة الأمر والمؤسسات المختصة؛ لأن قفز العامّة لهذا الحيّز يُفسِد أكثر ما ينفع، وذهنية الجماهير الغاضبة لا يمكن أن يأتي مِن ورائها حلول سليمة لأي مشكلة، وما نراه من مناحرات على منصات التواصل الاجتماعي يؤكد هذه النقطة، حتى بتنا نرى البعض يتعمّد افتعال مشاكل من لا شيء تقريباً حتى يبدو في مظهر المدافع الأوحد عن الأوطان ويزيد عدد متابعيه!
نحن نمثل تربية أهالينا لنا، فمن حَسُنَ خُلُقُه وطاب كلامه مُدِح مَن قام بتربيته، ومَن أساء الأدب وأفحش في القول وشتم وقذف وطعن بالأعراض، قيل إنه ما أخذ ذلك إلا من والديه، ولا أظن حتى السيئ فعلاً يرضى أن يُقال ذلك الأمر عن أهله، ونحن كمجتمع لا نريد أن نفخر بمباني عالية أو منجزات مادية لِنُثْبِت رُقيّنا كبشر، بل نريد أنّ نُبيِّن أن الحضارة لدينا كما علّمنا والدنا المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، تبدأ ببناء الإنسان وتنقيته وتطهيره من الداخل، فلا يقول أحدنا إلا حسناً ولا يعمل إلا خيراً.
نصيحتي لنفسي ولإخواني: لا تزرعوا الشوك، وإنْ رأيتم تدافع الناس على المشاركة في سيئ القول، فاختاروا ما اختاره الله لكم: «لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ».