عام الفقد

عام الفقد

عام الفقد

 صوت الإمارات -

عام الفقد

عوض بن حاسوم الدرمكي
بقلم - عوض بن حاسوم الدرمكي

لما مات عبد الله بن مُطرِّف بن الشّخّير خرج أبوه مُطرّف على قومه في ثيابٍ حسنة وقد دهن شعره، فاستنكروا صنيعه وقالوا له: يموتُ ولدك عبد الله ثم تخرجُ في ثيابٍ مثل هذه مُدَّهِناً!، فقال لهم: أفأستكينُ لها -يعني مصيبة موت ابنه-، لقد وعدني ربي تبارك وتعالى ثلاث خصال، كُلُّ واحدةٍ منهن أحبُّ إليّ من الدنيا وما فيها، قال الله تعالى: «الّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ»، «أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ» هذه الأولى، «ورَحْمَةٌ» هذه الثانية، «وأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ» هذه الثالثة !

ليست الحياة خلال وباء «كورونا» هي الحياة التي اعتاد عليها الناس، فلم تَعُد الصباحات هي نفسها ولا فترات النهار كما كانت ولا يأتي المساء إلا بمزيد من التوجّس، كادت أن تخلو الطرقات من مظاهر الحياة وعمّ الصمت المطارات والمجمعات التجارية ودور العبادة، تأتي الرسائل على الإنسان من كل حدبٍ وصوبٍ، فالإصابات جاوزت 4.5 ملايين إنسان والوفيات تجاوزت 303 آلاف، وعَبَث مسؤولو منظمة الصحة العالمية بمشاعر الناس وهم يقولون في مؤتمراتهم الصحفية إنهم لا يملكون علاجاً تارة، وإنّ السيطرة على المرض قد تحتاج خمس سنوات تارة أخرى !

هو عام الفقد لا شك، عامٌ عرفنا فيه قيمة الكثير من الأمور التي كنّا لا نكترث لوجودها أو نعتبر وجودها من الـمُسلَّمات، وبقي الكثير منّا يجري في هذه الحياة خلف أمور كثيرة كان يراها سبيل سعادته ومنتهى طموحه، حتى أتت اللحظة التي أُعيدت فيها البشرية إلى رُشدها لتعلم ما المهم فعلاً في حياتها القصيرة!

افتقدَ حتى قليلُ الترداد على المساجد، فما بالكم بمن أَلِفها واعتاد عليها، هو أمر قد لا يعرفه البعض، لكنّ المساجد وروحانيتها وبركة السعي إليها وطمأنينة العودة منها لا يُمكن أن يعوّضه أي شيء، هي أمور تتصل بتجلية الروح، بتصفية النفس، بتحقيق مستوى من الثبات العاطفي الذي لا تستطيعه الآلاف من محاضرات الطاقة والبرمجة العصبية والإيجابية وأشباهها.

فَقَدنا دفء زيارات الأهل وحميمية صلة الأرحام وجلسة التجمع الأسبوعي، تقبيل رأس الوالدة واحتضان أبناء الإخوة والجلوس بجانب كبير العائلة، وفقدنا مجالس الصُحبة، وزيارة المدن الأخرى بمعيّة رفقة لم نفترق عنهم منذ الطفولة، حتى أصحاب «الحلال» لم يعد أحد ينزل من سيارته ويكتفي بإعطاء توجيهاته للعامل من بعيد!

فجأة اكتشفنا أنّ أجمل لحظاتنا هي مع الآخرين، مَلَلنا من هذه العُزلة، عرفنا مغزى قوله سبحانه: «وجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا»، فلا جلسة تحلو دون جليس، ولا سَمَر يطيب دون مُسامِر، ولا وجبة طعام تهنأ دون مُشارِك، ولا سَفَر يصفو دون مُرافِق، وأنّ أبا الطيب المتنبي لو تعرّض لحجر «كورونا» لما ضَيّق الواسع وقال «وخير جليسٍ في الزمانِ كتابُ»!

ليس هذا تذمّراً ولا اعتراضاً على قَدَر الله سبحانه، فما أصابنا لم يكن ليُخطئنا وما أخطأنا لم يكن ليصيبنا، ولكن هي مراجعة واجبة للنفس، إنّ الآخرين ليسوا مجرد «آخرين» ولكنهم ركنٌ مهم من حياة الإنسان لا تستقيم حياته بدونهم، وإنهم يستحقون الاهتمام المختلف لاحقاً كما هم جديرون حالياً بالاهتمام بأخبارهم ولو باتصال هاتفي للاطمئنان عليهم وشدّ أزرهم، فهذه فرصة للتآلف ونسيان الخلافات إنْ وُجِدت، فما فُقِد لا يمكن تعويضه دون وجود الغير، ومن الضرورة عدم ترك فترات الصمت لتسود حتى لا تؤذي دواخل البشر وتفتك بنفسياتهم، فالهمّ بئس الضجيع، والضيق قد يؤدي للتلف كما قال سبحانه عن يعقوب: «وتولى عَنْهُمْ وَقَالَ يا أسفا عَلَى يُوسُفَ وابيضّت عَيْنَاهُ مِنَ الحزن فهو كظيم»

هي فترة اختبار للبشرية، تمحيص للنفوس وإيقاظ للضمائر التي لا زالت حيّة، نحتاج بها للثقة بالله سبحانه، وألا نعبأ كثيراً بكل ما يتسرّب عما يمكن أن يكون مؤامرة من جانب دهاقنة المال في العالم، من كان الله ملاذه فلا خوف عليه، ومن كان الله ناصره فسواه غير مهم، ولنقرأ هذه الآيات ونجعلها خارطة طريق خلال هذه الفترة: «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ».

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عام الفقد عام الفقد



GMT 21:31 2024 الأربعاء ,23 تشرين الأول / أكتوبر

كهرباء «إيلون ماسك»؟!

GMT 22:12 2024 الثلاثاء ,22 تشرين الأول / أكتوبر

لبنان على مفترق: السلام أو الحرب البديلة

GMT 00:51 2024 الأربعاء ,16 تشرين الأول / أكتوبر

مسألة مصطلحات

GMT 19:44 2024 السبت ,12 تشرين الأول / أكتوبر

هؤلاء الشيعة شركاء العدو الصهيوني في اذلال الشيعة!!

GMT 01:39 2024 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

شعوب الساحات

GMT 18:55 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
 صوت الإمارات - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 18:59 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
 صوت الإمارات - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 06:14 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

العاهل الأردني يلقي خطاب العرش في افتتاح مجلس الأمة العشرين
 صوت الإمارات - العاهل الأردني يلقي خطاب العرش في افتتاح مجلس الأمة العشرين

GMT 19:13 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر
 صوت الإمارات - الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 19:11 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25
 صوت الإمارات - "نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25

GMT 18:09 2018 الثلاثاء ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

تصميمات مختلفة لسلاسل من الذهب رقيقة تزيدك أنوثة

GMT 11:26 2018 الجمعة ,19 كانون الثاني / يناير

الصين تتسلم الدفعة الأولى من صواريخ "أس-400" الروسية

GMT 16:28 2017 الجمعة ,20 كانون الثاني / يناير

تسمية بافوس القبرصية عاصمة للثقافة الأوروبية

GMT 18:36 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

تنجح في عمل درسته جيداً وأخذ منك الكثير من الوقت

GMT 12:16 2020 الإثنين ,01 حزيران / يونيو

تجنّب أيّ فوضى وبلبلة في محيطك

GMT 17:14 2019 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

بن راشد يُصدر مرسوماً بضم «مؤسسة الفيكتوري» إلى نادي دبي

GMT 01:20 2019 السبت ,20 تموز / يوليو

نبضات القلب المستقرة “تتنبأ” بخطر وفاتك!

GMT 02:41 2019 السبت ,05 كانون الثاني / يناير

"الفاتيكان" تجيز استئصال الرحم من المرأة لهذا السبب فقط

GMT 23:19 2013 الأربعاء ,12 حزيران / يونيو

"Gameloft" تستعرض لعبة "Asphalt"بهذا الصيف

GMT 13:12 2013 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

معرض الكتاب الكويتي منصة متميزة لأصدارات الشباب الأدبية

GMT 09:48 2013 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

الإذاعة المِصرية تعتمد خِطة احتفلات عيد "الأضحى"
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates