بقلم - عوض بن حاسوم الدرمكي
تقول إحدى الحِكَم: «إذا أردتَ أن تصطاد السمكة الكبيرة فلا بُدّ أن تستخدم طُعماً كبيراً»، فكل هدف لا بد أن يكون الاستعداد له والـمُمكّنات بحجمه، فإنْ أردتَ شيئاً عظيماً فلا بد أن تستعد له بشكل استثنائي وتعمل له بطريقة غير مسبوقة، أمّا أن تقوم بذات الأمور ثم تنتظر نتيجة مختلفة تماماً فأنت حينها تخسر السباق من بدايته!ليس الحديث عن رمضان، ولكنه عن توجّه عام وخطة مستقبلية يبدو أنها ما زالت في مرحلة مخاض طويلٍ ومتعثّر، وتحديداً حديثي عن الدراما التلفزيونية العربية وضعفها الكبير في المقارنة بمثيلاتها من دول العالم، وهو الأمر الذي كشفته الشبكات المفتوحة مثل Netflix، حيث لا يوجد ما يُرغِم المشاهِد على تقبّل عمل لا يروق له، ولا يمكن لصخبٍ مفتعل ضد برنامج آخر أن يوقِف مشاهدته له، بل أصبح الأمر معكوساً، فكل ما يُنتَقَد أصبح المشاهدون بدافع الفضول يبحثون عنه ويشاهدونه!
سأتوقف عند مسلسلٍ شغل الدنيا وانقسم عليه البعض، بين من يراه إيجابياً ومن يراه فكراً مؤدلجاً، لكن لا يجرؤ أحد أن يقول إنه غير ناجح، فمسلسل «قيامة إرطغرل» التركي، والذي حقق عائداً مالياً تجاوز المليار دولار، قد تعدّت مشاهداته المليارات الثلاثة في أكثر من 85 دولة، وزار موقع تصويره أكثر من 25 رئيس دولة، بل وشارك الابن الثالث لرمضان قديروف، رئيس الشيشان في بعض حلقاته، بينما أكد الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، أنهم يتابعون المسلسل في فنزويلا باهتمام بالغ لأنه يُلامس القيم الإنسانية، وأضاف: «هذا المسلسل يُعلِّم الإسلام الحقيقي وقد أكون مُسلماً يوماً ما بفضله»!
يذكر محمد بوزداغ، منتج وكاتب سيناريو المسلسل: «أنّ العالم في حاجة إلى قصةٍ جديدة، وأنّ حكايات هوليوود قد انتهت، وحان الوقت لنشر الحكايات المستوحاة من الحضارة الإسلامية (التركية)»، هذا التوجه على سلامته إلا أنّه أساء له بقصر الحضارة الإسلامية على الجانب التركي، وربما يقول قائل إنّ ذلك من حقه كونه تركياً ويريد إبراز تاريخ أسلافه، ولا غضاضة في ذلك ولكن العتب علينا إذ ما زلنا ننتقد الآخرين ونرى انتقائيتهم ونحن لا نتقن سوى الكلام والبحث عن الأخطاء التاريخية في تلك الأعمال والبقاء في وضعية ردود الأفعال دوماً!
إنّ هذا المسلسل الذي «كسّر الدنيا» شئنا أم أبينا، يستند إلى الحكايات الشعبية المتوارثة، ولا توجد كتب تاريخية موثقة تدعم ذلك السيناريو العجيب، فالوقائع مختلقة والبطولات مبالغ فيها جداً وكثير من الشخصيات غير موجودة أصلاً وبعض الأحداث الهامة في تلك الحقبة قام كاتب السيناريو بإدخال شخصية إرطغرل فيها قسراً رغم أن مؤرخي تلك الفترة لم يذكروه إطلاقاً كطرفٍ فيها فضلاً عن أن يكون بطلها الأبرز، لكن المشاهِد البسيط لا يهتم بمسألة «التوثيق» هذه، لأنّ المسلسل نجح في تقديم شخصية «مُخَلِّص» ينتصر لكل الصفات الإنسانية الجميلة القريبة من القلب.
هنا أتساءل: ما الذي ينقصنا لكي نُقدّم دراما بمثل هذه الاحترافية تستطيع أن تُعيد تشكيل الوعي العالمي تجاه العرب والمسلمين؟ نحن لا نحتاج أن نختلق أحداثاً وبطولات غير موجودة، لدينا الفاروق وخالد بن الوليد وعمر بن عبد العزيز وعبد الملك بن مروان وأبو جعفر المنصور وهارون الرشيد وعبد الرحمن الداخل والناصر والحاجب المنصور وصلاح الدين والمظفر قطز والمنصور الموحدي وغيرهم من العظماء، لكن نفتقد الإرادة الحقيقية وتغيب عنا النظرة الواسعة، ونجهل أًسس المبادرة وتخطي الآخرين بقفزات من الإنجازات لأننا أدمنّا دور المنتقد للناجحين دون أن يُقدّم بديلاً بنفس القوة!المشاهِد لم يُصبِح ذكياً، بل كان طيلة الوقت بذلك الذكاء، لكن لم يكن لديه خيارات أخرى، فاضطر رغماً عنه لمشاهدة «العَك» المعتاد للدراما العربية، من قصص الحب والخيانة والطلاق والمخدرات وسرقة الإرث والجريمة، أو تلك الكوميديا الباهتة التي تقوم على تمجيد النجم لا تمجيد الفكرة، وتتكئ على مشاهد الإثارة والإغراء لكسب المشاهدين إلا من رحم الله مِن أعمال جيدة وهي ليست بالكثيرة وأغلبها لا يحظى بما يستحقه من دعم!
بمستوى الدراما الحالي لن نكسَب مُشاهِداً ولن نغيّر وجهة نظر، لدينا أزمة كبيرة في هذا القطاع وما لم نوجد لها خطة متكاملة لعلاجها وإلا سنبقى في ذات المكان، نُقدِّم الضحل وننتقد الناجح لكي ننجح!