بقلم - عوض بن حاسوم الدرمكي
لدينا مثل شعبي في الإمارات يقول: «العيوز مب مِن خَذْها، مِن تفكَّك مِنها»، فبعض الابتلاءات يُتْعِبك وصولها ويستنزف طاقتك أكثر محاولاتك للتخلّص منها، فـ«كورونا» الذي أربك كبار ساسة العالم ورنّح أقوى اقتصادات الدنيا، أجبر أكثر من مليار وستمئة مليون طالب للدراسة في منازلهم في 161 دولة، وبعد كل تلك الغطرسة لدى العالم المتحضّر طيلة سنين، وزفّهم كل يوم لِقُرْب إطلاق تقنية جديدة لا تخرج لنا حتى في الأحلام، أتى فيروس لا تراه العين ليُعيد البشر لحجمهم الطبيعي ويجعل أقصى حُلُمٍ للإنسان هو أن يُصافح أقاربه أو يشرب قدح قهوة في مقهى!
في استبيان أجرته مؤسسة Common Sense Media خلال الأسبوع الأخير من شهر مارس على 849 طالباً من أغلب الولايات الأمريكية ممن تتراوح أعمارهم بين 13 إلى 17 سنة، لقياس فاعلية التعلّم عن بُعد كبديل للتعليم التقليدي، اتضح أن من طلاب المدارس الخاصة لم يحضروا ولا يوم دراسي إطلاقاً، هذه النسبة تقفز بشدة لطلاب المدارس الحكومية لتصل إلى %47، المشكلة ليست هنا ولكن لما كشفه فيروس «كورونا» من «المستخبي» عن واقع سيّدة العالم وكان هو أحد أسباب تلك الأرقام المؤسفة، إذ اتضح أنّ أكثر من 12 مليون طالب أمريكي لا يملكون خدمة انترنت بمنازلهم وأغلبهم من أُسَر ذوات دخول متوسطة أو منخفضة مما يجعل تفاعلهم مع التعلم عن بُعد أقرب للمحال!
نقطة مهمة أخرى أفرزها المسح وهي أن 4 من كل 5 طلاب لا يستطيعون التركيز على التعلّم عن بُعد لأنهم مشغولون بمتابعة أخبار الوباء بشكل مكثف، وأكثر من %60 منهم قلقون للغاية أن يُصاب أحد من أفراد أُسرهم بالمرض ويتوقّف عن العمل أو يتوقّف العمل في الجهة التي يعمل بها مُعيلهم ويتسبّب ذلك في قطع مصدر دخلهم الأسري وعدم قدرتهم على سداد رسوم الإيجار والكهرباء والماء والعلاج بل وحتى توفير الغذاء، هذه النقطة لا توجد لدينا بهذا الحجم والحمد لله ولكن من المهم تواصل الوالدين مع أبنائهم وتطمينهم لإعادة اتزانهم النفسي إلى مستواه الطبيعي، هذا تأثير نفسي على الطلاب لا بد من ملاحظته ولا يُلامون في ذلك لأنه لم يسبق للعالم الحالي أن واجه مثل هذا الوباء!
في استبيان أجرته صحيفة «البيان» الأسبوع الفائت، صوّت %91 من بين أكثر من 26 ألف شخص في الإمارات بالرغبة في إنهاء العام الدراسي للمراحل من رياض الأطفال وحتى الصف الثالث الابتدائي، والأمر ببساطة لأن الفائدة محدودة ولكن الحِمْل على ولي الأمر - وغالباً تكون الأم - كبير للغاية، فلصغر سِنّهم يحتاجون إلى الكثير من المساعدة للتعامل مع الأجهزة التقنية وتطبيقاتها، من عملية الدخول للتطبيق وقراءة الإرشادات بشكل متواصل، وبدء المهام الصحيحة حسب تراتبيتها، ثم إرسالها وانتظار الملاحظات لكافة المواد، ويكون الأمر أصعب في حالة كون الأم موظفة تعمل عن بُعد أيضاً أو لديها أطفال آخرون يحتاجون إلى ذات الاهتمام والمتابعة اللصيقة، هذا حِمْل نفسي كبير ستكون له تَبِعاته أيضاً إنْ لم تتم معالجته بإنهاء دراسة تلك المراحل بأقرب وقت ممكن!
الحمل النفسي الثالث للضلع الثالث وهي هيئة التدريس، فساعات العمل أصبحت مرهقة للغاية، والكثير منهم تفاجأوا بضرورة استخدامهم لتطبيقات ذكية والبدء في أسلوب مختلف للتعليم فوراً دون سابق تأهيل وتدريب، وتشتّت طاقاتهم الذهنية والنفسية والبدنية بين التعامل مع الطلاب من جهة ومع الدعم التقني من جهة أخرى لكثرة الأعطال وغضب بعض أولياء الأمور بسببها، المدرّس هنا بين مطرقة النظام الجديد وسندان أولياء الأمور، وفوق ذلك فإنّ بعض المدرّسين يُعاني من عدم جدية فئات من الطلاب والتشويش المتواصل على الدرس أو عدم الالتزام بالحضور والمشاركة وهو أمر يخرج عن سيطرة الهيئة التدريسية وتقع مسؤوليته على ولي الأمر، ومن الصعوبة بمكان أن تطالب المدرِّس بالقيام بدور الإداريين ليتواصل مع أولياء الأمور بسبب التغيّب أو عدم الجدية!
الوضع استثنائي، وكل الحلول الحالية من عمل عن بُعد وتعلّم عن بُعد هي استثناءات أفرزتها الضرورة، وحتى نكون واقعيين فهي علاجات إطفاء حريق Fire Fighting Solutions، ولا بُد أن يُنظَر لها بهذه الصورة حتى يكون النظر لها منصفاً وتوقّع مُخرجاتها منطقياً، ما سيكون منهجاً متكاملاً وحقيقياً للتعلّم عن بُعد يُفترض أن يكون للعام القادم إنْ قدَّر الله واستمر الوباء دون علاجات، وفوق ذلك فهي منهجية لا بد من إدخالها في السياسات المستقبلية حتى نتوقّى الحالات المماثلة في قادم الأيام ونفتك من «العيوز» مبكراً، والمهم أيضاً أن نتعامل بجدية كأولياء أمور مع الوضع حتى تنتهي السنة الدراسية بأكبر المكتسبات الممكنة، فما لا يُدرَك كُلُّه لا يُترَك جُلُّه!