تمتد أمامي الحجارة المرصوفة للقنطرة الرومانية فوق نهر الوادي الكبير وفي مواجهتي يقف شامخاً الجامع العظيم بينما على اليسار تنتصب الناعورة الشهيرة التي كانت ترفع الماء لريّ القصر الأموي المجاور، تتزاحم من حولي وجوه السيّاح وهم لا يتركون زُقاقاً ضيّقاً إلا ويسلكونه، فهم يشعرون أن به روحاً تحاول التماس من يأخذ بيدها بعد قرون طويلة من طمس الهوية وتكميم الأفواه، تشدّني رائحة عطرة لغابة أشجار النارنج في باحة الجامع، في داخله تشعر بالغثيان وأنت ترى ما فعله فرناندو الثالث عام 633هـ ومن أتى بعده لمحاولة سلخ الجامع من هويته الإسلامية، فتماثيل القديسين والصلبان ورسومات الكنيسة وُضِعت قسراً فوق القباب والأقواس والنقوش الإسلامية، الطريف أن لا أحد يقف عندها، فالجميع يزدحم بشكل غير معقول أمام المحراب العظيم الذي لم يُمَس ولله الحمد !
"سوف تمر هذه العاصفة"، مقولة سائرة تداولها أهالي قرطبة القديمة على أمل أن تنقشع عنهم الغمامة وينزاح الكرب، لم يُصدّقوا أن يغدر بها بعض أبنائها الناقمين على أمير المدينة فيدلّوا فرسان قشتالة على ثغرات سورها الشرقي، أي دناءة قد تصل بالبعض لكي يُقدّم مصالحه ومطامعه الشخصية الضيقة على حساب الوطن وسلامة من به، عندما بدأ القتل في الربض الشرقي وتدافع الناس لداخل المدينة وأُقفِلَت الأبواب استنجدت قرطبة بابن هود وكان يتقمّص دور سيّد الأندلس ولكنه لم يكن إلا من يصدق فيه قول الشاعر:
أسماء مملكةٍ في غير موضعها
كالهِرِّ يحكي انتفاخاً صولةَ الأسدِ
فرغم أن من يحاصر قرطبة لم يكونوا يتعدّون المائتين من فرسان قشتالة بقيادة فرناندو الثالث بينما ابن هود يملك جيشاً يزيد عن الخمسة والثلاثين ألفاً قادرين على سحق تلك الفئة الصغيرة في غمضة عين إلا أنّ الشخصية الضعيفة لا تنفعها الأعداد الكبيرة، ولم يكذب نابليون بونابرت عندما قال : "جبانٌ في جيشي أشدّ علي من عشرة شجعان في جيش العدو" فكيف إذا كان ذاك الجبان هو قائد الجيش نفسه!
كان ابن هود يحوي في جيشه فرقة من المرتزقة قوامها مائتان من الفرسان القشتاليين، وعندما اقترب من قرطبة واستبشر به الناس خيراً، ارتكب خطأ كارثياً بإرساله لكبير الفرسان المرتزقة لإبلاغه بحجم جيش ملك قشتالة، تخيّلوا، ذهب هذا الفارس واجتمع بفرناندو الذي هو زعيمه الحقيقي واتّفق معه على خطة لإسقاط المدينة، فعاد لابن هود وأخبره أنّ فرناندو يملك جيشاً هائلاً لا يمكن هزيمته، فتركها مذعورة تواجه مصيرها المؤلم، لتستسلم شريطة أن يخرج منها كل أهلها !
يقول شاعر إسبانيا الشهير أنتونيو ماتشادو: "إنّ مياه نهر الوادي الكبير تتحوّل إلى دموع عندما تمر بقرطبة"،لم يُبالغ في ذلك، فحيثما ذهبتَ ستنسلُّ رغماً عنك مشاعر حُزن قاتلة وأنت تتجوّل في طرقاتها وأحيائها العتيقة، مَن قال أنّ البيوت السعيدة لا صوت لها، بل الحزينة المكسورة هي التي لا صوت لها سوى بكاء محموم يختنق داخل الأضلع، هي لا تلوم أعداءها على ما فعلوا بها من فظائع، ولكنها تلوم من خذلها وتركها وحيدة تواجه الذئاب المسعورة الذين لم يتحملوا حتى نقوش جدرانها فعمدوا لتشويهها!
علمتني قرطبة أنّ الخير لا بد أن تسنده قوة وإلا ذهب لقمة سائغة لأرباب الشر، ألم تكن مشكاة النور والعلم التي اقتبس منها خصومها فلما اضاؤوا شموعهم أطفأوها وتركوها لليل حزين قاتم، هو التوجيه الرباني للردع: "وليجدوا فيكم غِلظة" فمَن لا يُرْهَب يتجرأ عليه حتى الأنذال!
علمتني قرطبة أنّ الأمم العظيمة لا يسقطها أعداء الخارج ولكن يغتالها دون أن تشعر خونة الداخل، فهم كالسرطان الذي ينخر في أوصال الجسم حتى ينهكه ويسقطه، نراهم هذه الأيام في أوضح صورة فحذاري منهم قبل أن يجعلوا كل مُدننا قرطبة!
علمتني قرطبة أنّ اختلال النسيج المجتمعي نذير كل شر، وأنّ السماح لصغار العقول بالعبث به بإثارة نعرات طائفية أو تعمّد استفزاز عقيدة وقيم مَن به هي بوابة الجحيم التي ما أن تُفْتَح إلا وكاد يستحيل إغلاقها، تحضرني هنا الحكمة الهندية القديمة التي تقول: "إنّ مَن يدعو أعمى يستقبل ضيفين"، كذلك بدأ الأمر في قرطبة، فبدأت العصبية بين المضريّة والقيسية وبين اليمانية وأصبحت عداءً دموياً ارتكبت بسببه مآس بينهم، ثم قامت النُفرَة بين العرب مِن جهة والبربر من جهة أخرى وتحول الصراع إلى جُرحٍ غائر أنهك البلاد وأضعفها بينما كان الأعداء في قشتالة وليون ونافار يستولون على الـمُدُن الأندلسية الواحدة تلو الأخرى.
علمتني قرطبة أنّ من ضيّع بلاده لا ينجبر كسره ولا تنتهي غُصّته، فحيثما رحل فهو مُشرَّد وحيثما حَلَّ فهو غريب، فمن يُفرّط في أرضه لا تكاد تقبله أرضُ أخرى فوقها، لأنها تكاد تشم في خطوات أقدامه وأنفاسه بقايا الخذلان والجُبن والخيانة، ما أسوأ أن تُتْرَك الأوطان الغالية دون أن تُراقَ عليها آخر قطرة دم لآخر رجل يبقى فوقها، كفى قرطبة بؤساً أن لا يبقَ في عيون الناس منها سوى آثارٍ للتصوير، ولا يفطن أحدٌ لذاك الظمأ المزمن لوجوهٍ وأصواتٍ رحلت عنها ذات ليل حزين وتركتها قرباناً للغزاة!
كما سقطت قرطبة وأشبيلية وغرناطة وطليطلة كادت أن تسقط حواضر أخرى للعرب في هذا العصر، فبغداد ودمشق وبيروت يفتخر ساسة إيران بأنّها أصبحت تحت احتلالهم، وصنعاء لولا وقفة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان وإلا لكانت لَحِقَت برفيقاتها، فكما خان مَن سبق خان علي صالح والحوثي وحزب الإصلاح لبيع اليمن في سوق نخاسة المجوس، فصدّهم الرجال كما يفعل أفذاذ الرجال، وليت مَن سَمِع استغاثة قرطبة كان سلماناً وأبا خالد، إذن لكان الحال غير الحال ولكن الأيام ليست كريمةً على الدوام.