بقلم -عوض بن حاسوم الدرمكي
على جدار مقهى قديم في بلدة فرنسية جميلة وُضِعَت لوحة تحمل حكمة، تختصر الآلاف من كتب الإدارة والتطوير وأسباب النجاحات والإخفاقات، تقول كلماتها: «إنّ أعظم الأفكار يتم اغتيالها من أصغر العقول».
من نِعم الله على أي مجتمع أن يكون لديه مفكرون قادرون على خلق فارق إيجابي له على الدوام مقارنة بالمجتمعات الأخرى، وتكون النعمة أكبر بكثير عندما يكون هذا المفكر في منصب قيادي كبير بالبلد، حينها يكون طريق النجاح أسرع وتحقيق الطموحات أقرب والتفوق على المنافسين حاضراً، وهذا ما نراه في بلادنا والحمد لله، فمبادرات القيادة الملهمة التي لا تتوقف والدعم اللامحدود للتطوير المؤسسي والرغبة المتّقدة لجعل مؤسسات الدولة ضمن أفضل المؤسسات العالمية في مجالاتها المختلفة هي ديدن صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، وصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، وقد رأينا ثمار جهدهما الكبير في تفوق الدولة في مجالات عديدة وتصّدرها لأغلب إن لم يكن كل التصنيفات العربية والإقليمية في المؤشرات التنافسية العالمية المختلفة وبفارق كبير.
هذا الجهد العظيم الذي يبذله سموّهما وحُلمها الكبير، الذي لا يتوقفان لحظة من أجل تحقيقه بجعل الإمارات إحدى دول النخبة ومرجعاً رئيسياً سياسياً واقتصاديا وصناعياً وثقافياً وإنسانياً، كل هذا يُحتّم علينا نحن أن نستشعر أهمية دور كل واحد منّا، وأن يبذل كل شخص على هذه الأرض الطيبة أقصى ما يمكنه أن يقدّمه حتى تصبح تلك الرؤية العالية والحلم العظيم متحققاً في أقرب وقتٍ ممكن، ومن هذه الأدوار أن نُمكّن كل شخص للقيام بدوره بالطريقة التي تساعده على إطلاق قدراته دون قيود أو معوقات تجعله لا يخرج أفضل ما لديه وأحياناً لا يستطيع تقديم أي شيء بسبب ظروف عمل غير ملائمة وثقافة مؤسسية قاتلة.
قبل فترة أطلقت القيادة الرشيدة مؤشراً جديداً لإسعاد الموظفين وقياس رضاهم عن بيئة عملهم، وبالطبع فالقيادة تعلم أنّ كل مؤسسة تتعامل مع نوعين من العملاء مرتبطين ارتباطاً وثيقاً، العميل الخارجي الذي يستفيد من خدماتها أو يقتني منتجاتها والعميل الداخلي وهو الموظف، وما لم يكن العميل الداخلي راضياً عن ظروف عمله وسعيداً ببيئة مؤسسته وإلا لن يكون بالإمكان تقديم خدمة جيدة ومرضية للعميل الخارجي، لذا كان إدراج هذا المؤشر حتى تبدأ المؤسسات في تحسين أوضاع بيئاتها الداخلية اعتماداً على النتائج التي ستخرج لهم من إجابات موظفيهم، فالكمال غير موجود ولكن من المهم الإيمان كونه عقيدة مؤسسية بالتحسين المستمر ودوام مراجعة الإجراءات الداخلية واللوائح التنظيمية والبيئة المكانية لجعلها أكثر ملاءمة وتحفيزاً للموظفين.
البعض كان على قدر المسؤولية وواعياً بالمغزى من تلك المبادرة وبدأ في قياس سعادة موظفيه والاستفسار عن كيفية جعل بيئتهم أفضل، ولكن ما جرى من البعض في تفاعلهم مع المبادرة كان كارثياً، فمؤسسة ألزمت موظفيها بتعبئة استبيان «سعادة موظف» أسبوعياً شريطة أن يضع «ممتاز» على كل النقاط، المضحك أن ذات المؤسسة شكّلت «لجنة تقصّي» لدراسة أسباب تزايد نسبة استقالات الموظفين منها، بينما اختارت مؤسسة أخرى عَيّنة «انتقائية» وليست «عشوائية» من الموظفين حتى تضمن أن تكون الإجابات كما تريد بالضبط، فاختارت من تمت ترقيتهم حديثاً ومن يشغلون مناصب قيادية ذات مزايا مالية عالية، ومَن تم توظيفهم حديثاً بعد سنوات من البحث عن عمل، ومؤسسة أخرى قامت مديرة الموارد البشرية بإرسال رسالة تهيب بالموظفين أن يتركوا ملاحظاتهم وتذمّرهم على بيئة العمل غير المناسبة، وأن يضعوا «ممتاز» لكل الأسئلة حتى لو لم تكن الإجابة كذلك حتى «لا يخذلوا الوطن» أمام العالم، تخيّلوا!
إنّ القيادة الرشيدة قد ربطت أغلب الوزارات بمؤشرات التنافسية العالمية لثقتها في حياديتها ومصداقيتها، وذلك حتى تستطيع متابعة التحسّن وتقوم بدعمه، وتنتبه لمواطن النقص وتعمل سريعاً على إزالتها قبل أن تكبر وتؤخّر من تسارع قطار الوطن في سباق الحضارة والمدنية، فالمؤشرات هي لمساعدتنا لنكون أفضل وأكمل وأجمل، لكنها لن تكون كذلك إذا عبث بها البعض خوفاً على كرسيّه، هنا تحضرني مقولة جميلة لعرّاب الجودة الشاملة إدوارد ديمنغ وكأنّه يقصد أمثال هؤلاء الذين يحاولون التحايل على النتائج بقوله: «في الله وحده نثق، البقيّة كلّهم لا بد أن يُقدِّموا أرقاماً»!
هذه الاستبيانات التي تقوم بها المؤسسات بنفسها لن تقدّم لنا ما نريد، العبث بها قد بدأ على قدمٍ وساق، والخوف أن يضطر البقية «الصادقون» لتغيير نتائج استبيانات موظفيهم «الحقيقية» خوفاً من أن يبدو شكلهم محرجاً مقارنة بأصحاب معدلات السعادة التي قاربت 99.9%، والنتيجة ستكون صورة مخادعة للوضع الحقيقي، ولن يكون بالإمكان إجراء أي تصحيح لمواضع الخلل وستنتشر ثقافة مؤسسية هدامة قائمة على التلفيق وتحوير الحقائق!
ما لم يكن التقييم من جهة محايدة وإلا فلننسَ موثوقية أغلب النتائج، المقياس الحقيقي سيكون عندما تخرج مؤشرات الأداء من خلال جهة محايدة كجوائز التميّز المؤسسي، والتي أخرجت لنا تناقض مؤسسات كانت تملأ الصحف بين الفترة والأخرى بفوزها بجوائز عالمية لم نسمع بمنظميها من قبل ولن يجدهم حتى العم «غوغل»، ثم خرجت النتائج الرسمية «المحايدة» لنجد رضا المتعاملين عن خدمات تلك المؤسسات ذات الجوائز العالمية لا يتجاوز 14% !
إن الحلم ليس ذاك الذي تراه عندما تنام بل الذي لا يجعلك تنام أصلاً، وإن كان يحرمك المنام والراحة في سبيل اختصار الأزمنة لتحقيقه فإنّه من الضروري الذي لا يقبل التساهل به ألا يخدع الإنسان نفسه، وأن يستحضر جُهد قيادته من أجل رقي هذا الوطن وثقتها فيه، ليكون ساعداً تتكئ عليه و«محزماً» لأيام الشدّة، وألا يكون ذاك الصغير الذي يغتال الأفكار العظيمة!