اعتدنا في عالم الدبلوماسية، أن يُجمّل الساسة نواياهم السيئة بشعارات رنّانة، لا تستعمل إلا لمحاولة تحسين القبيح، ووضع بعض مساحيق التجميل عليه لتمريره على الناس، لكن عندما يأتي الأمر للأميركان فالقصة تختلف، ها هو جورج كينان المخطط الاستراتيجي الأميركي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، يقول بملء فمه، دون مجاملة:
«إننا نمتلك 59 % من ثروات العالم، أي بالقوة، ولكن لدينا 6.3 % من سُكّانه، في هذه الحالة، عملنا الحقيقي هو بالمحافظة على هذا (اللا تكافؤ)، للقيام بذلك، علينا التخلّي عن العواطف المفرطة، وعلينا التوقف عن التفكير بحقوق الإنسان ورفع مستويات المعيشة وإحلال الديمقراطية»!
طبعاً هذا لن يروق للمطبلين للغرب، الذين يُسبّحون بحمده، لكنّها الحقيقة المرة، الولايات المتحدة لا تكترث بأي وسيلة تستخدمها من أجل ضمان سيطرتها على موارد العالم الطبيعية، بدون إغفال قوة آلتها الإعلامية لتجميل وتبرير أفعالها، والتي من ضمنها المطبلين في بلدان العالم الثالث، لكنّ المهم هو التأكد أن مصادر التفوّق حالياً ومستقبلاً من موارد طبيعية ومصادر طاقة، لا بد أن تكون تحت سيطرتها، وإلا ذهبت لمنافسيها والراغبين في خلافتها.
لا أصدقاء لدى أميركا، بل إنّ أول من تنهشهم هم من يظنّون أنهم أصدقاؤها، فإثر كارثة Deepwater Horizon في خليج المكسيك مع شركة BP البريطانية، وقف ريك تيلرسون وزير الخارجية الحالي، رئيس شركة Exxon Mobil الأميركية ليقول في التحقيق: «سوف لن نقوم بحفر البئر بنفس طريقتهم»، في غمزٍ واضح لعدم استيفاء الشروط لدى أصدقائهم البريطانيين.
ولزيادة توريط الشركة «مالياً» كتعويضات للمتأثرين، ومثله فعل جون واتسون رئيس شركة Chevron، ليقفز بعدها تيلرسون وزملاؤه للضغط على BP لبيع أصولها وامتيازات حقولها في مختلف دول العالم بأسعار زهيدة، لتغطية التعويضات، والتي زادت بتهييج الأميركان وبكائياتهم على خمسين مليار دولار، وهي ما عُرفت حينها بـ «وليمة النسور على الجيف النافقة».
ليس الأمر بجديد عليها، فهي تعرف استغلال أصدقائها لتمرير أجنداتها رغماً عنهم، فعندما ضغطت على حلفائها بريطانيا وفرنسا للانسحاب من منطقة القنال، إبان العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، لم يكن ذلك دفاعاً عن دولة مستقلة، أو انتصاراً لحرية الشعوب.
ولكن لأنها حينها كانت تؤجج إعلامياً كراهية الشيوعية، للتضييق على منافسها المرعب الاتحاد السوفييتي، وتستغل تدخل جيوشه في هنغاريا لإسقاط حكومة الإصلاحي إمري ناجي، لإظهار السوفييت والشيوعية كعدو للإصلاح والعدالة وحق الشعوب في تقرير مصيرها، فكان لا بد من إيقاف حلفائها حتى لا يفسدوا ترويج تلك الفكرة!
بعد سقوط حائط برلين وانهيار النظام الشيوعي، وجدت الولايات المتحدة نفسها في مواجهة مع ارتفاع نجم حلفائها اقتصادياً، وبشكلٍ متسارع، لذا، كان لا بد من إعادة الجميع ليقف خلفها في «الطابور»، ولا يشذ عن نظامها الذي اختطته لنفسها كقوة عظمى أُحادية لا تقبل المشاركة.
فعملت على تشويه سمعة الأنظمة المالية لحلفائها، واشتد هجوم مُفكّريها «الموجّهين» و«شبيّحتها» من الكُتّاب على رأسمالية أوروبا والشرق الأقصى، رغم أن الواقع يقول بأنّ رأسمالية أميركا أو رأسمالية «رينتر»، تباعد بشدة بين الأغنياء والفقراء، بينما الرأسمالية الإنتاجية في أوروبا الغربية، تهدف إلى توزيع الثروات بشكل عادل في المجتمع، وتهتم ببناء صناعة منتجة، بجانب الحفاظ على ديمقراطية اجتماعية!
من نفاق أميركا أنها لم تكن تجرؤ على انتقاد أو انتقاص الأنظمة المالية والصناعية لحلفائها، عندما كانت الكتلة السوفييتية محتفظة بقوتها، لذا، ما إن سقط السوفييت ونظامهم، حتى كشّرت عن أنيابها، وخرج فرانسيس فوكوياما بكتابه نهاية التاريخ لتمجيد أميركا، وبأن الليبرالية الأميركية تحوّلت إلى الأيديولوجية السياسية الوحيدة، وأنها قد وصلت ذروتها، ولن يتم تسلق قمم أخرى، لأنها ببساطة لا توجد، الأمر الذي يعطيها المبرر لتمتص شعوب العالم لتحقيق مصالحها، وهو تنظير جعل السياسة الأميركية أكثر وقاحة في تعاملها مع الآخرين، بمن فيهم حلفاؤها.
لا أحد يجرؤ على ذكر أن الولايات المتحدة هي البلد الوحيد في العالم الذي أدانته المحكمة العالمية World Court، بسبب الإرهاب الدولي الذي مارسته في نيكاراغوا، وأنها استخدمت حق النقض ضد قرار مجلس الأمن الذي يدعو الحكومات لـ «احترام القانون الدولي»، وبأنها قصفت مصنع الشفاء بالسودان، بزعم أنه مصنع للأسلحة الكيميائية، رغم أنه المصنع الوحيد المنتج لـ 90 % من احتياجات ذاك البلد الفقير للأدوية الأساسية.
وسمحت لعميلها سوهارتو بقتل مليون شخص في إندونيسيا، نظير السماح لشركاتها بتفصيل الاقتصاد الإندونيسي كما تشاء، ليخرج «الشبّيح» جيمس رستون عميد كتاب الأعمدة الأميركان، ليكتب في نيويورك تايمز: «إنّ الأحداث الدامية في إندونيسيا كانت بصيص نورٍ في آسيا»، تخيّلوا!
مِن «فَرْعنة» أميركا المضحكة، أنها أوعزت للبنك الدولي ليضغط على الحكومة البوليفية لخصخصة قطاع المياه، والترسية بمدينة كوتشابامبا على شركة آغوس ديل توناري، المملوك نصفها لشركة بكتل الأميركية، والتي رفعت فوراً قيمة تعرفة المياه، ثم سَنَّتْ قانوناً لا يجيز جمع مياه الأمطار بدون إذن، حياة الآخرين لا قيمة لها، ألم تُسأل مادلين أولبرايت ذات يوم، إن كان حصار العراق يستحق ما تسبب فيه من موت أكثر من نصف مليون طفل، فقالت بعنجهية: «نعتقد أنه ذلك يستحق الثمن»!
عام 1952، أعلن الرئيس الغواتيمالي جاكوبو أربنز، برنامج إصلاح زراعي وتأميم الأراضي، خاصة التي أخذتها بطرق ملتوية شركة «بوسطن المتحدة للفواكه»، وإعادة الأراضي للفلاحين البسطاء، فما كان من الولايات المتحدة، إلا دعم انقلاب دامٍ أودى بحياة 15 ألف مناصر لأربنز، وإسقاط حكومته، لأنه ببساطة لم يعلم أن آلان دالاس رئيس الـ CIA، وجون فوستر وزير الخارجية الأميركي، كانا عضوين في مجلس إدارة الشركة المذكورة!
أميركا كيانٌ قام على اجتثاث شعب كامل وسلخه من أرضه، وما حمله ذلك من اختلاق قيم صادمة للكثير من البشر، تقوم على حق القوي بأن يأخذ كل شيء، ولكي يكون بمقدوره أخذ كل شيء، لا بد أن يبقى قوياً على الدوامن وأن يحافظ على اللا تكافؤ، والذي يستلزم، كما قال كينان «التخلّي عن العواطف المفرطة والتفكير بحقوق الإنسان، ورفع مستويات المعيشة وإحلال الديمقراطية»!