بقلم - عوض بن حاسوم الدرمكي
عندما دان الأمر لبني العباس وانتهت دولة بني أُميّة سأل أبو جعفر المنصور أحد أشياخ الأمويين الذين سلموا من القتل عن سبب زوال دولتهم، وهي التي امتدت من الصين شرقاً حتى أطراف فرنسا الجنوبية غرباً، فقال الشيخ الذي عَرَكَتْه التجارب: «أمورٌ كبيرة أوليناها للصغار، وأمورٌ صغيرة أوليناها للكبار، وأبعدنا الصديق ثقة في صداقته، وقرَّبنا العدو اتقاءً لعداوته، فلم يتحول العدو صديقاً، وتحوَّل الصديق عدواً»!
ولأن من لا يتعلّم من دروس الزمان بغيره سيجعل منه الزمان درساً آخر، فقد دارت الأيام ببني العباس بعد خمسة قرون من المجد والعظمة وما تبعها من رضا عن الذات، وتوقّع أنْ دولتهم أكبر مِن أن يحلَّ بها ما حل بدولة الأمويين مِن قبلهم، كانت التهديدات تأتي من بعيد، أكثر من سبعة آلاف كيلومتر حيث المغول الهمج، لكن الخليفة العباسي المستعصم بالله لم يأخذها على محمل الجد، والأسوأ أن وزيره ابن العلقمي، والذي لا يُعرَف لِمَ اختاره في الأساس لسوء سيرته وفساد تدبيره، كان من السوء بمكان أن أقنع الخليفة لكي يتخلص من أغلب قواد الجيش وجنوده، بدعوى تخفيض النفقات والاهتمام بالكيف لا بالكمّ، وهي بالمناسبة أكبر شماعة لتمرير أجندات البعض الشخصية للتخلص من منافسيهم، وتمّ فعلاً تخفيض الجيش من أكثر من مئة ألف مقاتل إلى عشرة آلاف فقط، والجميع يعلم الخاتمة وكيف أسقط المغول بغداد وقتلوا مِن أهلها قرابة المليوني إنسان لعدم وجود ما يكفي للدفاع عنها!
في كل التجمعات الإنسانية سواء أكانت أسرة أو فريق عمل أو مؤسسة أو دولة، فإنّ أهم عنصر بها دوماً هو الإنسان، فإن كان ذلك الإنسان جيداً في عقله كتخطيط ووضوح هدف، وفي روحه كنقاء نية وحب خير، وفي يده كأمانة وجودة عمل أتت الثمار كما تُشتهى، وإن كان منحرفاً في فكره، أو سيئاً في باطنه، أو لا ينظر لأبعد من مصالحه الخاصة الضيقة، فإن ذلك التجمع الإنساني الذي يحتويه سيُعاني منه بحجم منصبه أو دوره فيه!
والدنا المؤسس زايد الخير، عليه رحمة الله تعالى، كان يقول: «الرجال هي اللي تبني المصانع»، فحاضر كل وطن ومستقبله قائم على ما به من كفاءات بشرية، لذا تتسابق الدول وأولها دولتنا الحبيبة للاهتمام بالإنسان وتأهيله، وتُرصَد الميزانيات الكبيرة للتعليم والرعاية الصحية، وعندما يدخل ذلك الشخص مجال العمل يخضع للعديد من البرامج التدريبية المتخصصة وبعضها يكون من خلال ابتعاث خارج الدولة، وهي أمور تستنزف الكثير من ميزانية الدولة، لكن هو استثمار مهم والعائد منه سيكون كبيراً كما يُخطَّط له ويتوقع منه، وفعلاً تمضي الأمور كثيراً كما يجب حتى يخرج في المسار شخصُ نشاز لا يرى في كل شيء إلا مصلحته الشخصية ليعبث ويعيث فساداً!
مؤسساتنا كلها تمتلئ بالموهوبين من أبناء وبنات البلد، والذين تعبوا على تأهيل أنفسهم وسخّر لهم الوطن كل موارده لجعلهم ركائز مهمة يستطيع الرهان عليهم، فإن وجدوا مسؤولاً يضع الصالح العام نُصب عينيه ويفرح برؤية أبناء وطنه باستعداد ذهني وبدني ونفسي عالٍ لخدمة بلدهم تألقت تلك المؤسسة وأصبحت محل شكر الجميع، وساهمت في تعزيز قدرة الدولة التنافسية وتمكينها من تحقيق أهدافها المرحلية.
وإن وُجِدَ مسؤولٌ نشاز يرى في كل موهوب تهديداً له وخطراً داهماً لخطف كرسيّه ومنصبه، الذي يتمنى أن لا يأخذه من فوقه إلا ملك الموت فقط بعد عمر طويل، فإن المعاناة تكبر لمن هم تحت مسؤوليته، فسيادته سيبدأ خططاً لم تخطر على قلب بشر لكي «يُطيِّر» كل من لا يروق له.
فالبعض يتم تحويله للإدارات المنسيّة أو الفروع الخارجية، والبعض يمنح مسمّى مستشار والذي هو في الحقيقة (عاطل عن العمل براتب)، والبعض يتم إلصاق كل عيوب الدنيا فيه ولا يمنح الفرصة للدفاع عن نفسه، والبعض يُجبَر على الرحيل بوضع من هو أقل منه كفاءة كرئيسٍ له، أمّا المخضرمون والذين يعتبرون أهم كفاءات أي مؤسسة لجمعهم المهارة مع الخبرة الطويلة، فيتم التخلص منهم بالإحالة للتقاعد سريعاً وكأن بينه وبينهم ثأراً قديماً!
بلادنا لم تُقَصِّر في أبنائها ولكن قَصَّر بهم قصيرو النظر وصغار العقول، وبلادنا كانت ولا زالت تراهن على فلذات كبدها وهم على قَدْر الرهان إنْ سَلِموا مِن «قَطّاعة النصيب»، هو مستقبل مضيء نصبو إليه وطموح كبير نسعى له، ولدينا كل ما نحتاج لجعل أحلامنا واقعاً معاشاً، فقط ما نحتاجه هو حماية من تعبت الدولة على تأهيلهم وتطوير قدراتهم من أبنائها قبل أن يُطفئ جذوة حماسهم مَن يضع كُرسيّه قبل صالح الوطن.